كتبت إيفا ابي حيدر في “الجمهورية”:
وصلت شظايا الوضع الاقتصادي المنهار الى القطاع العام، فالبقاء على احتساب لسعر كلفة الصيانة والمعدات والمستلزمات المكتبية وغيرها وفق سعر الصرف الرسمي، أي 1500 ليرة، يبعد عنه المتعهدون والمقاولون. وقد بدأت تتكشّف نتائج هذه الأزمة في مظاهر الفقر والتقشّف في كل الإدارات الرسمية، لكن هل تشكّل هذه الأزمة مناسبة لإدخال متعهدين ومقاولين جدد للتعامل مع القطاع العام، تُعاد معها أسعار المشاريع الى أحجامها الطبيعية؟
أبعدت الأزمة المالية المتمثّلة بانهيار سعر صرف الليرة المتعهدين والمقاولين عن تقديم خدماتهم للقطاع العام. فبعدما كان هذا القطاع منجم ذهب للعديد منهم تركوه يتهاوى وحيداً. وفي غمرة الاعداد لموازنة 2022، كشفت مصادر متابعة لـ”الجمهورية” انّ عصر النفقات مطلوب بشدة، لكنّ المشكلة ان أحداً لا يهمه التعامل مع القطاع العام، من المكتبات لتأمين أبسط المستلزمات المكتبية الى الشركات والمؤسسات لتأمين خدمات المعلوماتية او الصيانة او حتى إجراء التصليحات، عازيةً المشكلة الأساسية لاستمرار الدولة بالفَوترة وفق سعر الـ1515 ليرة للدولار في حين اقترب سعر صرف الدولار في السوق الموازي من 13000 ليرة.
أضافت المصادر: لقد بلغت كلفة الصيانة في موازنة العام 2021 حوالى 168 مليون ليرة بما يوازي حوالى 112 الف دولار وفق السعر الرسمي فيما يساوي هذا المبلغ اليوم 13 الف دولار فقط، مشكّلاً حوالى 15 % فقط من الكلفة السابقة، لذا تُحجم شركات القطاع الخاص عن التعاطي مع القطاع العام وترفض تجديد العقود مع الدولة، فعقد الصيانة الذي كانت تبلغ قيمته في السابق 10 آلاف دولار كانت تساوي يومها 15 مليون ليرة، فيما يساوي هذا المبلغ اليوم حوالى 1300 دولار. فأيّ قطعة غيار يمكن شراؤها بهذا المبلغ؟
أضف الى ذلك انّ الدولة تتأخر كثيراً في دفع مستحقاتها للمتعهدين، فلا أحد يخاطر في إبرام عقد مع الدولة في ظل عدم استقرار سعر الصرف فمن يضمن انه عند تسديد ثمن العقد أن تغطي قيمته الكلفة، خصوصاً انّ الدولة لا تدفع بالدولار؟
لهذا الواقع المستجد انعكاسات سلبية بدأت تظهر الى العلن لتزيد من ترهّل القطاع العام «المهرهر» أصلاً، ففي غالبية الادارات العامة الاوراق مقطوعة والمستلزمات المكتبية غير موجودة، والحمامات والمصاعد والمكيفات معطلة… ولا نزال في بداية الأزمة…
في هذا السياق، يقول الخبير الاقتصادي لويس حبيقة كما غالبية اللبنانيين ليس لدي أي تعاطف مع مَن استلم المقاولات والصيانة والمشاريع في القطاع العام، فالكل يعلم حجم الفساد في هذا القطاع المتمثّل خصوصاً بتضخيم أرقام كلفة المشاريع مقابل نوعية متردية، مؤكداً انّ الفساد لا يقتصر فقط على المقاولين إنما لطالما كان هناك تواطؤ بين المتعهدين والمقاولين من جهة والأطراف السياسية من جهة أخرى. فالكل يعلم انّ المقاولين والمتعهدين الرابحين دوماً في مناقصات الدولة يخصّصون نسباً من المشاريع التي يستلمونها الى الجهات السياسية التي مهّدت لفوزهم في المناقصة، فالتواطؤ بين المقاولين والدولة فاضح ويتمدّد ليطال عدداً من الموظفين أيضاً في القطاع العام.
ورأى حبيقة انه في ظل إحجام المتعهدين والمقاولين اليوم عن المشاركة في أية مشاريع تعود للقطاع العام، حان الوقت كي تعيد الدولة حساباتها وتعيد النظر بالأكلاف التي تكبّدتها طيلة هذه السنوات وهل كانت مستحقة. على سبيل المثال عند القول انّ احدى المشاريع كلّف الدولة مليار دولار، يجب التدقيق ما اذا كانت هذه الكلفة المقدّرة هي حقيقية ام مبالَغ فيها؟ وبالتالي ان الدولة اليوم امام فرصة مراجعة أرقامها وحساباتها إنما المشكلة اليوم تكمن في تحديد الجهة القادرة على القيام بهذا الدور الرقابي؟ وبالتالي، اذا ما وجد هذا الطرف يتوقع بعدها ان تتراجع الاكلاف لأنها في الأساس كانت مضخّمة.
واعتبر حبيقة انّ هذه الأزمة هي مناسبة لفتح الباب لإدخال مقاولين ومتعهدين جدد بدل الاستمرار بالتعامل مع نفس الأشخاص الذين تعاملت معهم الدولة على مدى السنوات الماضية، وهم في غالبيتهم محسوبون على جهات سياسية وفق تقسيم المحاصصة. وبالتالي، هي مناسبة اليوم لتنظيف الدفاتر وخلق صفحات جديدة بالتلزيمات وإبرام اتفاقيات مع متعهدين ومقاولين قادرين على العمل بأكلاف اقل من تلك التي كانت مَنفوخة في السابق، وبإنتاجية اكبر ونوعية افضل. وأكد ان هؤلاء متوفرون وربما حاولوا في السابق المشاركة في المناقصات، الّا انهم لم يتمكنوا من خرق حائط «المافيات» الذي كان قائماً بين القطاعين العام والخاص. والدليل كم من مرة سمعنا بدفاتر شروط مفصّلة على قياس شركات معينة، او بشركات محسوبة على جهات سياسية معينة ربحت مناقصة رغم انها قدّمت السعر الأعلى؟ وكم من أطباء أكفّاء عجزوا عن خرق حاجز القدرة على مزاولة المهنة في المستشفيات الحكومية؟
فهل يختلف اثنان على انّ طريق جسر ضهر البيدر لا تصلح للقيادة من كثرة التعرجات والخسفات، أين الصيانة وامن الطرق من هذا الجسر رغم انه كلّف ملايين الدولارات؟ والامر سيّان وينطبق على غالبية الطرقات في لبنان والجسور والانفاق التي كلفت مليارات الدولارات والنتيجة واضحة للعيان. لذا، لا يجب على الدولة بعد اليوم ان تركع امام عقود الصيانة.
أضاف: كل المتعهدين استفادوا في الماضي من ملايين الدولارات من الدولة فلماذا لا يتحمّلون العمل اليوم بأرباح أقل؟
وعن مدى تأثير هذا الواقع الجديد على إنتاجية القطاع العام، قال حبيقة: للأسف انّ الإنتاجية في القطاع العام هي أصلاً سلبية ومتدنية فهو من جهة لم ينل الحقوق التي يستحقها ما أدّى الى تراجع الإنتاجية في بعض الإدارات والتراخي في المداومة على العمل، ومن جهة أخرى أوجدت التوظيفات السياسية العشوائية في القطاع العام تخمة في أعداد الموظفين بما يفوق الحاجة اليهم. لذا، المطلوب اليوم الالتزام فعلياً بقرار وقف التوظيف في القطاع العام، وإعادة توزيع هؤلاء الموظفين على كل إدارات الدولة لا سيما حيث مكامن النقص، ووقف الاستعانة بالمياومين والمتعاقدين على الساعة واليوم والشهر…