كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
إن كان لا بدّ من عقد طاولة حوار وطنية طارئة، فيجب أن يكون عنوانها “الواقع الصحي”. ففي الوقت الذي تحوّل فيه الشأن السياسي إلى “فالج لا تعالج”، ما زال هناك بعض “النَفَس” في صدور المواطنين. وقبل أن “ينقطع”، وتُزهق أرواح المرضى وترجع إلى ربها “ناقمة على الساسة والمسؤولين”، يتحتم إعلان حالة الطوارئ الصحية، وابتداع المخارج بمساعدات دولية.
يُفيد مريض مضمون على حساب الضمان الإجتماعي، أن المستشفى اشترط عليه تسديد مبلغ 8 ملايين ليرة من أجل إجراء عملية قسطرة القلب (تمييل)، التي تكلف 1000 دولار أميركي. مع العلم أن فرق الضمان الذي يجب أن يتحمله المريض هو 10 في المئة، أو 150 ألف ليرة فقط، من أصل كلفة جراحية محدد سعرها بمليون و500 ألف ليرة. فما كان من المريض إلا أن عاد إلى بيته للبحث عن سبل تأمين المبلغ. ومع تكرار هذه الحالات، والتوقع بتفاقمها أكثر بعد رفع الدعم عن الدواء وكل المستلزمات الطبية قريباً، لا يعود هناك من مضمون فعلي في لبنان.
إنقلاب المعادلة: المضمون يتحمل 80%
تُوقف المستشفيات والمؤسسات الصحية والمختبرات ومراكز العلاج تباعاً استقبال المضمونين على نفقة الجهات الضامنة الرسمية والخاصة؛ وإن استقبلتهم، فبشرط تسديد المضمون ثلثي قيمة الفاتورة بحسب سعر صرف السوق، في الكثير من الحالات. إذ إنه “من المستحيل شراء الأدوية واللوازم الطبية واللوجستية والغذائية على سعر 13 ألف ليرة، وبيعها للجهات الضامنة على سعر 1507.5 ليرات”، بحسب أوساط المستشفيات. و”الإتفاق على أسعار جديدة لأكلاف الأعمال الطبية بين مقدمي الخدمات الإستشفائية وشركات الضمان، وتحديداً الرسمية منها، ينتظر انتهاء العام الحالي لابرام عقد جديد بأسعار جديدة. الأمر الذي يفوق قدرة مقدمي الخدمات على الإنتظار لغاية نهاية العام. خصوصاً في ظل التطورات المتسارعة في سعر الصرف ورفع الدعم”.
العجز عن رفع التسعيرة
“تشكل نسبة المضمونين صحياً على حساب الجهات الضامنة الرسمية، أي: وزارة الصحة، الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي، تعاونية موظفي الدولة والطبابة العسكرية، 80 في المئة من مجمل عدد السكان في لبنان، فيما تستحوذ شركات التأمين وصناديق التعاضد على النسبة الباقية المقدرة بـ20 في المئة. إلا أن المشكلة الأكبر تتمثل في عجز هذه الجهات على رفع تسعيرتها بما يتلاءم مع المتطلبات المستجدة للمستشفيات والمختبرات التي ارتفعت بين 5 و6 أضعاف للكثير من الخدمات”، بحسب رئيس “اتحاد صناديق التعاضد الصحية” غسان ضو، فـ”مخصصات وزارة الصحة محكومة بسقف معين لا يمكن تخطيه في ظل عجز الموازنة. والضمان الإجتماعي الذي يدفع للمستشفيات سنوياً 1300 مليار ليرة من اشتراكات أرباب العمل، من المستحيل عليه أن يضاعف الإشتراكات أو حتى أن يرفعها بنسبة 50 في المئة إلى 2000 مليار ليرة، في ظل الكساد وإقفال المؤسسات، فكيف الحال برفعها 6 أضعاف. وصناديق التعاضد التي تدفع 240 مليار ليرة سنوياً للمستشفيات، يستفيد منها 340 ألف مواطن بمتوسط إشتراك 3 ملايين ليرة أو 2000 دولار للعائلة الواحدة، لا تستطيع تحصيل إشتراكات أعضائها على أسعار صرف الدولار الجديد سواء كان على سعر السوق أو حتى سعر المنصة، لتعزيز القدرة المالية. بخاصة أن الأغلبية الساحقة من المشتركين يقبضون رواتبهم بالعملة الوطنية ولا يستطيعون تحمل هذا الإرتفاع الهائل بأسعار الصرف. والأمر نفسه ينطبق على شركات التأمين، التي عُلم أن عدداً منها سيقفل بشكل نهائي قريباً”. من هنا يرى ضو أن “أياً من الجهات الضامنة ليس بمقدورها زيادة أسعارها بنسبة 50 في المئة، فيما المطلوب رفعها اليوم بين 5 و6 أضعاف للمحافظة على نفس التغطية التي كانت سائدة قبل الأزمة”.
الحائط المسدود
أمام هذا الواقع يظهر أن كل الأطراف المعنية بموضوع الإستشفاء وصلت إلى الحائط المسدود. فلا المواطن يستطيع رفع اشتراكاته، ولا شركات الضمان تقدرعلى زيادة تقديماتها، ولا المستشفيات تملك القدرة على العمل بخسارة. فالأخيرة تهدد باستحالة متابعة العمل في ظل هذه الظروف وستتوقف عن إجراء الفحوصات الطبية بسبب فقدان لوازمها. وبالفعل، أعلن مستشفى بهمن بردّه على خبر توقفه عن استقبال المرضى المستفيدين من التغطية الصحية لكافة الجهات الضامنة، أنه: “نظراً لانخفاض قيمة الليرة وارتفاع أسعار المستلزمات المختلفة، وامتناع الموردين عن تسليمها للمستشفى في حال عدم دفع المستشفى ثمنها نقداً وبالدولار، ونظراً لتخلف بعض شركات التأمين عن تسديد المستحقات المتوجبة عليها حسب العقود المبرمة بينها وبين المستشفى، رغم مطالبتنا المتكررة، قمنا بإرسال كتب إلى ثماني شركات تأمين نطالب فيها بدفع المبالغ المتوجبة عليها وتجميد إدخال مرضى الحالات الباردة لهم لحين إيفائهم بالتزاماتهم”.
من البارد إلى الساخن
ما بدأ عـ”البارد” سيتطور قريباً جداً إلى “ساخن”، مع اشتداد الأزمة نتيجة حتمية رفع الدعم عن الدواء وكامل المستلزمات الطبية وارتفاع سعر الدولار. وحتى المؤَمّنين صحياً مع الشركات الخاصة سيواجهون المشكلة نفسها، لأن الأغلبية تسدد البوالص بشيكات مصرفية على سعر 3900 ليرة. الأمر الذي يجعلنا أمام “كارثة وطنية”، يقول ضو، “فلا سقوف لارتفاع سعر الدولار، والتعرفة التي قد يتفق عليها اليوم، قد تصبح غير ملائمة في الغد”. لذا لا يمكن اعتماد حل ثابت ونهائي للتسعيرة في ظل ظروف متقلبة. أما اللجوء إلى السقوف المتحركة، أي رفع تسعيرة المستشفيات على الجهات الضامنة بشكل مواز مع ارتفاع الدولار فهو أمر تعجيزي. وعدا عن المبالغ الهائلة المطلوب تأمينها من المواطنين، فان الإشتراكات تتحدد بشكل سنوي، فيما ارتفاع الدولار يومي.
التدويل هو الحل؟
عدا عن تراكم مستحقات المستشفيات على الجهات الضامنة وفي مقدّمها وزارة الصحة بمبلغ يتجاوز 2200 مليار ليرة، فان قيمة هذه الأموال لم تعد تساوي شيئاً حتى لو سددت بالكامل. وأمام هذا الواقع الذي يُنذر بكارثة وطنية، تقدم “إتحاد صناديق التعاضد الصحية” في لبنان بكتاب مفتوح إلى وزير الصحة حمد حسن، بصفته المسؤول الأول عن هذا القطاع، مجددين مطالبتهم بدعوة جميع الجهات ذات العلاقة لاستكشاف إمكانية كل قطاع ومقدرته على تحمل جزء من العبء المالي، لحين تخطي المرحلة الحرجة. كما ناشد “الإتحاد” المعنيين طلب المساعدة المالية من المؤسسات الدولية، وفي مقدّمها منظمة الصحة العالمية. إذ إنه بالإضافة إلى كل أزماته فان لبنان يتحمل 1.5 مليون نازح سوري، ومن دون مساعدة دولية لا إمكانية لوقف الإنهيار.
الإنفجار الكبير لم يعد يقاس بالأشهر والأسابيع بل بالساعات والأيام. وإذا كان بمقدورنا تخفيض الإنفاق على التعليم والخدمات والمأكل والمشرب فلن يكون باستطاعتنا التقشف بالصحة لانه ببساطة سنموت، وهذه المرة ليس على أبواب المستشفيات المقفلة، إنما في داخل بيوتنا المظلمة.