جاء في اللواء:
السؤال الحاضر على كل شفة ولسان، والذي يشكّل هاجس الهواجس عند اللبنانيين، ليس ماذا بعد؟ بل ما السبيل للخروج من المأزق الراهن؟
يعرف اللبنانيون، بعدما باتوا جلهم او على وشك أن يكونوا محلقين بفهم السياسات المحلية، والإقليمية والدولية، أن مسار الانهيار هو المنتظر: انتظروا ازمة الدواء فها هي تطل مهددة بأخطر مأساة صحية، يتعرض لها شعب، أطباء يهربون إلى المهجر، أو بحثاً عن بلدان Fresh Money، مستشفيات تقفل مختبراتها الخارجية، وأخرى تعلن للملأ أنها اقتربت أو انهت العقود مع المؤسسات الضامنة، العائدة للعسكريين، وموظفي الدولة (تعاونية الموظفين) وصناديق التعاضد، خاصة صندوق تعاضد أساتذة الجامعة اللبنانية.
انتظر اللبنانيون ازمة المحروقات، فها هي الأزمة تحاصرهم في تنقلاتهم، وأعمالهم (مزارعو البقاع يطالبون بالمازوت لتشغيل آليات الحراثة والموتورات لضخ المياه وتوليد الطاقة للبرادات الحافظة للمنتوجات الزراعية، التي يتعرض تصديرها إلى الخارج لاختناق غير مسبوق).
على أن الأخطر أن المواطن اللبناني الذي ذهب إلى صندوق الاقتراع، للإتيان بهذه الطبقة السياسية، لم يتيقن بعد ما اقترفت يداه، من جرائم، بحق نفسه، وزوجته وأولاده، وعائلته النسبية وقريته أو حيّه، وبني قومه (وما حدا يزعل أبناء عمومته في الطائفة أو المذهب!).
يقال في الأندية السياسية، وفي جلسات المسامرة والرهانات الرابحة والخاسرة، أن النواب الحاليين بصرف النظر عن انتماءاتهم ومناطقهم، وطرائق وصولهم إلى ساحة القرار التشريعي، وما يترتب عليه في ساحة النجمة، هم على يقين من عودتهم إلى البرلمان… كيف ولماذا، وعلام يراهنون… من الممكن أنني أجهل الإجابة، لكن السؤال: إذا لم يكن لديهم اقتناع بأنهم عائدون، لماذا هذا التهويل اليومي، من كتل وازنة: تكتل لبنان القوي (التيار الوطني الحر – جبران باسيل)، تكتل الجمهورية القوية (القوات اللبنانية)، كتلة المستقبل (تيار المستقبل)، وبين وقت وآخر اللقاء الديمقراطي (الحزب التقدمي الاشتراكي).
جرّب اللبناني حركة الاحتجاج، فجاءت صرخات الحناجر، وقبضات الأيدي، ورائحة الإطارات المشتعلة، والاشتباك بالأيدي، أو الحجارة، أو التعرض للقنابل المسيلة للدموع، أو الدخانية، تصب في خدمة طبقة السوء، التي وضعت يدها على كل مقدرات الحياة، بما في ذلك الماء والهواء والمحروقات، وبدت (أي طبقة السوء) عاجزة أمام جائحة كورونا، تلعب على التناقضات، وتنتظر الفرص للانقضاض.
كأن اللبناني كان بحاجة إلى أزمة هائلة من نوع الأزمة التي ضربته، ليدرك أن المشكلة تتخطى «الوقائع الجزئية» أو اليومية إلى ما هو أبعد.
إن العسر السياسي في تأليف الحكومة، غير مترتب على مفاوضات الملف النووي الإيراني، أو الاشتباك الفرنسي – التركي شمال افريقيا، أو صراع الجبابرة: الولايات المتحدة، الصين، الاتحاد الروسي، بعض من أوروبا، إلى النمور الآسيوية الصاروخية والذرية، مثل نظام كوريا الشمالية، كما يوحي هذا او ذاك من العابثين بوعي الناس، وألمهم، وهم يجولون ويصولون، بكل أشكال التحريف والتخريف والتجديف، من على المنابر والشاشات.
المشكلة في النظام وبنيته، المشكلة في بناء السلطة، والسيطرة على القرار. من هذه الوجهة، فالأزمة ذاهبة باتجاه إعادة إنتاج قالب أو إطار جديد للتعايش. كانت فكرة الحكومة تندرج ضمن نظرية «ملء الفراغ» اللبناني، بما يتناسب مع حالة من المراوحة والانتظار، لإعادة ترتيب وقائع الحياة في منطقة الاضطرابات والنزاعات في الشرق الأوسط، بكل ألوانها العرقية، أو الاثنية، أو الدينية، وحتى العائلية، فضلاً عن طبقات مصالح السيطرة المالية، ومصالح الاستثمار، ومصالح النفوذ وتقاطعاته.
في اللحظة هذه ليس بمقدور السني قوياً كان او ضعيفاً ان يبقى يرصد حركة الاحتجاج وقطع الطرقات، والقرارات ذات التأثير على لبنان، لا بد له من الانخراط في السلطة.
وفي اللحظة هذه، ليس بإمكان المسيحي، والماروني على وجه خاص، ان يخرج من هالة الحكم بعدما تذوق طعم القرار في السلطة، مع تجربة ميشال عون التي تجاوزت «مأساة العقدين» المنصرمين (التعبير مسيحي) لجهة إدارة الدولة، بدور هامشي مسيحي، يراعي حسابات الشكل، اكثر بكثير من مراعاة المضمون سياسياً، بما له وبما عليه.
في اللحظة هذه، لن يفرط الشيعي بقوة تجاوز بلدان المحور الذي ينتمي إليه قطوع السنوات العشر الخطيرة، لا سيما السنوات الأربع في عهد اليميني المتطرف دونالد ترامب عندما كان رئيساً للولايات الأميركية.
الشيعي مع الحفاظ على «صورة الهيكل» من الخارج، هو يدرك كما سواه، أن ثمة مرحلة انتهت، ومرحلة بدأت، كان 17 (ت1) 2019 أحد أبرز تباشيرها.. في سيرورة طويلة، على طريقة الأفلام المضحكة والمرعبة، من أفلام تشارلي شابلن إلى نماذج مسرح العرائس في هوليود الاميركية.
هنا جوهر مبادرة بري: ربط الهيكل المتصدع «بسقالة» الحكومة البالية، سواء تشكلت أو تعطلت… أما لب الموضوع فهو في إعادة إنتاج منظومة سلطة، غير واضحة المعالم، والحظوظ، لكنها في طبيعتها من طينة ترتيبات أكبر.. تبدأ من مفاعيل حرب غزة، والعودة إلى حل الدولتين، باتفاق نووي آخر أو من عدمه!