كتب رامي الرّيس في نداء الوطن:
المواطن اللبناني هُدرت كرامته! ليست الانكسارات اليوميّة التي يعيشها الشعب اللبناني والمآسي التي تستولد نفسها بصورة مفجعة، لا بل دراماتيكيّة، سوى إنعكاسات عميقة لأزمة التحلل الأخلاقي التي تعاني منها الأطراف القيّمة على إدارة شؤون البلاد والمولجة بتأليف الحكومة الجديدة كممر إلزامي لوقف الانهيار أو للحد من جنوحه وضراوته وشموليته لكل القطاعات مع التنامي المتواصل لمؤشرات السقوط اليومي لأنظمة الاستشفاء والطبابة والخدمات العامة.
وبمعزل عمّن يتحمّل مسؤوليّة التأخير المتمادي، لا بل الوقح واللامسؤول، في عمليّة تأليف الحكومة الجديدة؛ فالبلاد تمر في مأزق غير مسبوق، والعواقب السلبيّة التي يشهدها المجتمع تنذر بتدحرج إضافي لكرة الثلج مع ما سيعنيه ذلك من مخاطر الانفجار الاجتماعي المرتقب على ضوء “الارتطام الكبير” الذي بدأت تباشيره تلوح في كل المجالات.
صدقاً، لا يكترث المواطن اللبناني إلى شكل الحكومة وحجمها وطبيعة تكوينها، فهل سيكترث إلى طريقة تأليفها؟ لا يكترث المواطن مَنْ سوف يتولى تسمية الوزراء من الطوائف المسيحيّة والإسلاميّة. لا يكترث حقاً ما إذا كانت سياسيّة أو تكنوقراط أو تكنو- سياسيّة. همّه الأساسي تأمين لقمة العيش وإستعادة كرامته المهدورة في طوابير محطات البنزين وأمام الأفران ومع أصحاب المولدات ومع جشع التجار ونهب الصيارفة.
كل ما يريده المواطن اللبناني أن يرى بارقة أمل في وطنٍ ينزف يوميّاً من خزان موارده البشريّة الذين يطوفون أصقاع الأرض بحثاً عن مستقبل أفضل لهم ولأولادهم من بعدهم. هو الخزان نفسه الذي لطالما حقق النجاحات الباهرة في بلدان الاغتراب فحلق في المجالات الرحبة بمجرّد أن توفّرت له الفرص والمناخات المؤاتية للعمل والإنتاج.
واليوم، كل ما يريده المواطن هو توفير المناخ المناسب ليعيش من دون أن يصطدم يوميّاً بالكوارث المنظورة وغير المنظورة، وهو يتكفل بأن ينهض من جديد. المواطن اللبناني قادر على الصعود مجدداً على سلالم النجاح فور عودة البلاد إلى الحد الأدنى من الإستقرار السياسي والإقتصادي والمالي. هو يعلم تماماً كيف يستعيد مبادرته الفرديّة، ويحضّر لها ظروف النجاح، من دون منّة من أحد.
لقد مرّت ذكرى وفاة الصحافي والديبلوماسي غسان تويني (وقد ترحمنا عليه منذ أسابيع بعدما لمسنا “الصبيانيّة” الديبلوماسيّة اللبنانيّة التي دمّرت ما تبقى من علاقات عربيّة للبنان)، وهو صاحب الشعار الشهير الذي رفعه في الأمم المتحدة: “إتركوا شعبي يعيش”، وكانت تلك العبارة رداً على الاحتلال الإسرائيلي للبنان. اليوم، نكرر معه العبارة ذاتها، فالانهيار الإقتصادي لا تقل مخاطره عن الاحتلال وموبقاته.
كيف إنحدرت السياسة من عليائها الأخلاقي منذ المفكرين والفلاسفة الأوائل من أمثال أفلاطون وأرسطو إلى مجرّد ميزان للربح والخسارة وإلى إعتماد شعار “الغاية تبرر الوسيلة” التي كتب عنها ميكيافيللي والعنوان الأكثر شعبيّة ألا وهو “الضرورات تبيح المحظورات”. لا، إنها قواعد خاطئة ومن غير المقبول تكريسها في الحياة السياسيّة والوطنيّة.
فما هي الضرورات التي تبيح محظور خرق الدستور والتأخير الكبير في تشكيل الحكومة؟ ثم كيف يتحرّك ذاك المجلس المسمّى مجلس محاكمة الرؤساء والوزراء؟ هل تحرّك يوماً؟ ألا يُصنّف ما يجري اليوم في خانة الخيانة العظمى؟ إذا لم يكن هذا هو واقع الحال، فما هي الخيانة العظمى؟ من يحددها، ومن يحاسب من على أساسها؟
السياسة أخلاق قبل كل شيء. الأخلاق قبل الحسابات الفئويّة والمصلحيّة، قبل الكراسي والمقاعد الوثيرة، قبل المناصب والمكاسب والامتيازات، قبل القصور الرئاسيّة المعزولة عن الشعب وهمومه ومشاكله.
قال أمير الشعراء أحمد شوقي: “وإذا أُصيب القوم في أخلاقهم، فأقم عليهم مأتماً وعويلا”. ألم يحن الوقت لإقامة المآتم؟