كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
لم تكن إطلالة الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله الأخيرة كسابقاتها. لقد ظهر أكثر ثقة في مواقفه وخطواته، بل ذهب في التحدّي، في مسألة البنزين الإيراني مثلاً، إلى القول: «سنفعل وليجرُؤوا على منعِنا!».
ولهذه الرسالة مغزاها، خصوصاً في هذا التوقيت.
في بيئة «الحزب»، يسود الارتياح أكثر من أي يوم مضى، وهناك انطباع بأنّ خيارات «الحزب» هي التي انتصرت أو على وشك الانتصار، وأنّ الجميع سيجد نفسه يوماً بعد يوم مضطراً الى الرضوخ لها، لأنّ أحداً لم يستطع أن يُلحِق به الهزيمة.
وعناصر قوة «حزب الله» داخلياً تتكامل:
1- باب النقاش في ملف السلاح والاستراتيجية الدفاعية وقرار الحرب والسلم أقفِل تماماً، ولم يعد مطروحاً حتى من باب المناورة السياسية.
2- «الحزب» وحلفاؤه يمسكون بالسلطتين التشريعية والتنفيذية، وقرارهم في السلطة هو الراجح.
3- فيما البلد ينهار مالياً واقتصادياً ونقدياً، ومؤسساته المصرفية مشلولة، والجوع يستشري، يتمتَّع «الحزب» بقدرات مالية توفِّرها إيران، وتديرها مؤسساته المالية الخاصة.
ولكن، ثمة مَن يسأل: هذا النفوذ كان موجوداً منذ مدَّة طويلة، وقد ترسَّخ عبر سنوات، فما الجديد الذي يجعل «الحزب» اليوم أكثر ثقة في نفسه؟
المتابعون يتحدثون عن تحوُّلات سياسية مُهِمّة في المناخ الإقليمي والدولي يراهن عليها «الحزب» في لبنان، وأخرى يراهن عليها المحور الإيراني على مستوى الشرق الأوسط. وهذه التحوُّلات يرى «حزب الله» أنها بدأت تتحقّق على الأرض، وهو يتحضّر لقطف ثمارها.
فالحصار الذي فرضته واشنطن على لبنان، منذ العام 2017، بهدف إضعاف «الحزب»، يقود إلى انهيار متزايد للدولة والمؤسسات، لكن «حزب الله» لم يتأثّر به. وكذلك، لم تنجح العقوبات في فكّ سيطرته على القرار في لبنان. وبعد انفجار المرفأ، دخل الفرنسيون بمبادرتهم على الخط. وعندما اكتشفوا فشلها، حمّلوا المسؤولية للجميع ولوّحوا بعقوبات على كثيرين، لكنهم لم يُظهِروا أي سخونةٍ تجاه «الحزب». وعلى العكس، إن قنوات الاتصال بينهم وبينه مفتوحة، وهم يحرصون على مراعاة «خصوصية» الوضع اللبناني و»حساسيته». ولطالما كانت هذه نقطة خلاف بينهم وبين واشنطن زمن الرئيس دونالد ترامب.
كما يراهن «الحزب» على أنّ خطوط الاتصال المفتوحة بين واشنطن وطهران، وبين الرياض وطهران، وعبر خطوط عربية وأوروبية أخرى، ستوفر له الحماية والتغطية في لبنان.
فالأميركيون في عهد الرئيس جو بايدن يحرصون على إنجاح المفاوضات مع طهران. وأياً تكن المطبّات التي تتعرّض لها مفاوضات فيينا، فعلى الأرجح ستنتهي بتسويات تشمل الملف النووي والصواريخ البالستية ودور إيران الإقليمي.
وهذا التبريد سيستفيد منه «الحزب» لتكريس موقعه في الداخل اللبناني. ويكتسب الأمر أهمية مع اقتراب الاستحقاقات النيابية والرئاسية التي يمكن أن تتكفل بنقل لبنان إلى خيارات أخرى أو تكرّس بقاءه في «الستاتيكو».
حتى الآن، «الحزب» لا يخشى هذه الاستحقاقات لأنّه يتحكّم بمسارها. وهو يدرك أنّ أي انتخابات نيابية أو رئاسية لن تمرّ الّا برضاه. وهذا يعني أنّها ستجدِّد له التغطية والاعتراف بالنفوذ. وأما الانهيار المالي والمؤسساتي، وحتى الأمني، فلا يشكّل له أي إحراج. وعلى العكس، هو يجعله الأقوى داخلياً، والأكثر تماسكاً وتنظيماً فيما كل شيء مفكَّك.
إذاً، هل يعني ذلك أنّ «الحزب» على وشك تكريس مزيد من السيطرة على قرار الدولة المركزي، أياً تكن المتغيّرات الآتية؟
المؤيّدون لـ«الحزب» لا يستبعدون حدوث ذلك في الأشهر المقبلة، ويقولون: في النهاية، هو صمَد وأحبط محاولات إضعافه ودفع الشعب إلى الانتفاض عليه. ومِن حقِّه أن يجيِّر انتصاره سياسياً، وعلى الخصوم أن يقتنعوا بالهزيمة ويتراجعوا.
ولكن، هناك مَن يقول: الأميركيون والفرنسيون والخليجيون العرب قد يُبرِمون صفقاتٍ مع إيران، ولكن ليس في مصلحتهم أن يخلوا لها الساحة في لبنان ويسحبوا أيديهم منه نهائياً. ولذلك، رهانُهم قوي على الجيش كحصان رابح للحفاظ على البلد وتجنيبه أي صدمة، حتى وصوله إلى التسويات الكبرى.
طبعاً، لا يمانع «الحزب» أن يحظى الجيش بالدعم. ولعقودٍ من الزمن هو أتقن التعايش مع المؤسسات، ولاسيما العسكرية والأمنية، وتقاسَم معها هوامش السلطة. لكنه يحاذر أن يكون هناك مَن يراهن على تبدُّل موازين القوى إقليمياً وداخلياً لإحداث تَنافس أو تَصادُم مع هذه المؤسسات.
وفي الخلاصة، هناك اقتناع لدى مراقبين جدّيين بأنّ عملية خلط الأوراق الناتجة من ورشة الاتصالات الجارية أو المتوقعة، بدءاً من مفاوضات فيينا، ستنعكس على لبنان. وفي ضوئها، «سيعاد تركيبُه» من الحضيض، بعد بلوغ الانهيار مداه الأقصى.
وضمن هذا التصوُّر، سيتقرَّر موقع «الحزب» ودوره داخل الدولة، ربما وفق نموذج «الحشد الشعبي» في العراق- كما يرى البعض- حيث حدّد قانون 2016 تشكيلات «الحشد» بأنّها «كيانات قانونية تتمتع بالحقوق وتلتزم بالواجبات، باعتبارها قوة رديفة ومساندة للقوات الأمنية العراقية، ولها الحقّ في الحفاظ على هويتها وخصوصيتها».
أو ربما يتقرَّر موقع «الحزب» ودوره وفق أي نموذج آخر تحدِّده الصيغة التي ستولد في الحوار، أو المؤتمر التأسيسي.
ولكن، في أي حال، ليس واقعياً أن يتوقع أحد نزع الامتيازات الحالية من «حزب الله».
وفي المقابل، ليس واقعياً أن يسيطر «الحزب» على الدولة برمتها. فبين الخيارين سيكون هناك مكان لصيغة تسووية لا يخرج منها أحد مهزوماً.
والصيغة المنتظرة يُفترض أن تحدّد النقطة التي سيتموضع فيها لبنان، بين نظامه المركزي الموجود فيه اليوم نظرياً، وواقعه اللامركزي الذي وصل إليه بالانهيارات الشاملة.
الحصار الذي فرضته واشنطن على لبنان، منذ العام 2017 بهدف إضعاف «الحزب» يقود إلى انهيار متزايد للدولة والمؤسسات.