Site icon IMLebanon

العماد جوزيف عون… هل يكون الحل في لبنان؟

كتب صلاح تقي الدين في العرب اللندنية:

على ضوء استفحال الأزمة السياسية التي يتخبطّ بها لبنان نتيجة فشل الرئيس سعد الحريري بعد أكثر من ثمانية أشهر على تكليفه بتشكيل الحكومة العتيدة، عادت إلى الواجهة عناوين كثيرة كانت قد راجت أثناء الحرب الأهلية مثل “ويبقى الجيش هو الحل”، لتحصر الاهتمام في شخصية قائد الجيش العماد جوزيف عون الذي برهن منذ توليه قيادة الجيش في آذار 2017 عن سلوكية لا يعلوها غبار ومناقبية مجبولة بحنكة حوّلته إلى شخصية مطروحة بقوة لترؤس حكومة انتقالية تكون مهمتها إنقاذية وإصلاحية تشرف على الانتخابات النيابية المقررة في الربيع المقبل وبعدها الانتخابات الرئاسية التي من المقرر أن تجرى بين سبتمبر وأكتوبر من العام المقبل.

وشعار “يبقى الجيش هو الحل” عنوان كتاب وضعه العميد الركن فؤاد عون نائب رئيس الأركان للتجهيز في الـ1 من آب 1988 عند استفحال أزمة الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة لاختيار بديل عن الرئيس السابق أمين الجميل الذي شارفت ولايته على الانتهاء، لكن العميد عون في حينها كان يروّج للعماد قائد الجيش ميشال عون شخصياً وليس للجيش كمؤسسة مترابطة ومتماسكة في وقت كانت فيه معظم الألوية متشرذمة ومحسوبة على الأطراف السياسية التي كانت تهيمن على المناطق المنتشرة فيها.

الدرع الواقي والواقع الجديد

الواقع اليوم يختلف عمّا كان عليه في العام 1988، فالجيش أصبح مؤسسة مترابطة حاول العماد عون ومن قبله قادة الجيش الذين أشرفوا على بنائه بعد الحرب إبعاد السياسة عنه قدر الامكان ونجحوا إلى حد معيّن، وأثبت مناقبية وقدرة قتالية اكتسبها بالتدريب الجاد وعمّدها بالدم الذي سال نتيجة خوضه حرب الحدود الشرقية والشمالية في وجه الإرهابيين الذين تسللوا إلى لبنان نتيجة الحرب السورية وتوّجها بالانتصار الذي حظي بإشادة معظم الدول العربية والغربية.

ومنذ بدء الانتفاضة الشعبية في تشرين الأول 2019 اتجهت الأنظار كلها صوب الجيش اللبناني وطريقة تعامله مع هذه الانتفاضة الشعبية التي تطالب بتغيير المنظومة الحاكمة ومحاسبة “كلّن يعني كلّن” وإطلاق الشعارات التي تشيد بالجيش وتتعهّد بالوقوف إلى جانبه وتطالبه بالإمساك بزمام السلطة، لكن كل هذه الدعوات والشعارات لم تدفع يوماً العماد عون إلى التخلّي عن مناقبيته وتمسّكه بالتراتبية التي تجعله تحت أوامر السلطة السياسية المتمثلة في رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء.

ومع تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية وارتفاع أسعار المواد الغذائية والمحروقات بشكل كبير وفقدان الضباط والجنود لأكثر من 80 في المئة من قيمة رواتبهم، بدأت الأزمة المعيشية ترخي بظلالها القاتمة على المؤسسة العسكرية وكثرت الأخبار حول تخلّف العديد من الجنود عن الالتحاق بمراكز عملهم ناهيك عن تقديم العديد من الضباط طلبات إجازات غير مدفوعة في محاولة للتفتيش عن آفاق عمل أو هجرة تضمن لهم مستقبلهم خارج البلاد.

في ظلّ هذه الواقع انحسر اهتمام العماد عون بتأمين مقومات صمود المؤسسة التي رأس فكانت له جولات واتصالات بغية تأمين الحد الأدنى من المساعدات التي يحتاج إليها الجيش لكي يستمر في لعب دور “الدرع الواقي” لأمن الوطن والمواطنين، وذلك لا يتحقق بغياب الغذاء أو تقنينه أو حرمان الآليات العسكرية من قطع الغيار والمحروقات التي تضمن استمرارية عملها في الدوريات الروتينية أو الحالات الطارئة لمواجهة أيّ عمل مخلّ بالأمن الاجتماعي للبنانيين.

ومع استفحال الأزمات المعيشية التي يعيشها المواطن اللبناني، وفي خطوة تحذيرية، وجّه العماد عون في الثامن من آذار الماضي رسالة إلى السلطة السياسية في كلمة له خلال اجتماع قيادة الأركان والمجلس العسكري إذ قال “الجيش جزء من هذا الشعب ويعاني مثله”، وسائلًا “أتريدون مؤسسة جيش قوية وصامدة أم لا؟ لا يمكن أن تقابل جهوزيتنا الدائمة بخفض مستمر للموازنة، فالأمر بدأ يؤثر في معنويات العسكريين. لقد تحدثنا إلى المسؤولين ولكن لم نصل إلى نتيجة للأسف”، واعتبرت هذه الرسالة الواضحة بأن الجيش لن يقف في وجه الاستياء الشعبي المحق، ومؤكّدا في الوقت عينه أن المؤسسة العسكرية ستبقى إلى جانب المتظاهرين مادام أنهم لم يخرقوا “الانتظام العام” وتعرضوا للممتلكات العامة أو الخاصة.

أعاد العماد عون التشديد على أنه من غير المسموح التدخل في شؤون الجيش، سواء بالتشكيلات أو الترقيات أو رسم مساره وسياسته، مضيفًا قوله “إذا كانت للبعض غايات مخفية في انتقاد الجيش فليدركوا أن فرط الجيش يعني نهاية الكيان”، داعياً متهمي الجيش بالتقصير في موضوع التهريب عبر الحدود إلى “معاينة الحدود والاطلاع على أبراج المراقبة التي نصبها الجيش“.

مهمة الإنقاذ المستحيلة

وكثيراً ما تلقى على الجيش اللبناني تهمة التقصير في مراقبة الحدود البرية مع سوريا التي تشهد عمليات تهريب موصوفة بغطاء واضح من “حزب الله” حيث تشاهد قوافل المحروقات والمواد الغذائية المدعومة وهي تعبر من الحدود غير الشرعية باتجاه سوريا التي تعاني من نقص في هذه المواد نتيجة الثورة التي انطلقت في مارس 2011 ضد النظام السوري.

لكن علاقة عون بالطبقة السياسية كانت “طبيعية” مع مختلف مكوّناتها رغم أنه عندما وصل إلى الموقع الأول في المؤسسة العسكرية، قيل يومها إن ذلك مكافأة على وقوفه إلى جانب الرئيس ميشال عون وتياره السياسي منذ أن كان “فخامة الجنرال” قائداً للمؤسسة العسكرية وتأييده الكامل له.

لكن العارفين ببواطن الأمور يشيدون بقائد الجيش الحالي خصوصاً بعد معالجته للأزمة الكبيرة التي كانت ستحلّ بالبلاد نتيجة الحادثة المشؤومة التي شهدتها منطقة قبرشمون في الجبل عندما تواجه مناصرون للحزب التقدمي الاشتراكي وآخرون تابعون للوزير السابق صالح الغريب ومن خلفه رئيس الحزب الديموقراطي اللبناني الأمير طلال أرسىن، حيث وقع قتلى وجرحى من الجانبين وكادت البلاد تدخل في نفق مظلم دموي كبير لولا حكمة قاد الجيش الذي تصرّف بعقلانية واضحة ووقف بوجه القرارات “الانتقامية” التي أراد رئيس الجمهورية ووزير الدفاع اتخاذها بحق الاشتراكيين ودعما لفريق الأرسلانيين.

وتقول مصادر معنية لصحيفة “العرب” أنه لدى بدء الاجتماع الطارئ لمجلس الدفاع الأعلى الذي انعقد لبحث ذيول ما يعتقد رئيس الجمهورية أنه كان كميناً نصبه الاشتراكيون لصهره ووليّ عهد الجمهورية رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في قبرشمون، دخل رئيس الجمهورية ووجّه بغضب واضح كلاماً إلى قائد الجيش طالباً منه دهم مناطق تواجد “الاشتراكيين” وسوقهم إلى السجن بالقوة، لكن قائد الجيش نبّه إلى خطورة هذا الأمر وأنه قد يتسبب في نشوب حرب أهلية، وناصحاً بعدم الإقدام على مثل هذه الخطوة، فكان كلامه موضع تقدير جميع المشاركين في الاجتماع، طبعاً باستثناء رئيس الجمهورية ووزير الدفاع آنذاك إلياس أبوصعب، وتمت الاستعاضة عن طلب رئيس الجمهورية بترك المسألة للقضاء وأن يصار إلى حلّها على طريقة “تبويس اللحى” وطيّ صفحتها بعد أن يأخذ العدل مجراه.

وحظي الجيش اللبناني منذ نهاية الحرب الأهلية باهتمام ورعاية واضحين من الدول الغربية والصديقة، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا، ناهيك عن الدول العربية الشقيقة، فكان مجموع المساعدات التي قدمتها هذه الدول إلى المؤسسة العسكرية يفوق بأضعاف كبيرة ما تصرفه الحكومة اللبنانية كميزانيات للجيش، وذلك يتضمن التجهيزات العسكرية المتطورة والأسلحة والذخائر التي بحدها الأقصى لن تشكّل تهديداً لأمن إسرائيل الذي هو فوق كل اعتبار بالنسبة إلى هذه الدول، إلى جانب التدريبات المكثفة التي خضع لها عناصره لمواجهة الارهاب الذي انتشر في المناطق الحدودية المتاخمة لسوريا، وأبراج المراقبة المزودة بتقنيات حديثة والتي نصبت على هذه الحدود.

وفي ظل انسداد أفق تشكيل حكومة تتولى مهمة إنقاذ الكيان اللبناني من الاهتراء الذي ألمّ به نتيجة ممارسات الفساد الطويلة وانغماس أهل المنظومة الحاكمة بخلافات شخصية وتقاذف التهم بالتعطيل، سرت في الأيام والأٍسابيع القليلة الماضية مداولات حول اللجوء إلى تشكيل حكومة انتخابات والاستعاضة عن حكومة المهمة التي طرحتها مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على أن تتولى هذه الحكومة الإشراف على الانتخابات النيابية المقبلة والتي باتت مطلباً ملحاً داخلياً ودولياً لكي تجرى في موعدها على أمل أن تكون بادرة التغيير المطلوب من خلال إيصال وجوه شابة طموحة ونظيفة إلى الندوة البرلمانية لكي تبدأ عمليات الإصلاح المنشود.

ومن الشروط التي يتم تداولها حول شكل الحكومة أن تكون برئيسها وأعضائها من غير المرشحين إلى الانتخابات النيابية، وبدأت بورصة الأسماء ترتفع وتنخفض وفقاً لدرجة حرارة النقاشات الجدية المتعلقة بالحكومة العتيدة، ووسط ذلك كله جاءت زيارة رسمية لقائد الجيش إلى فرنسا لتزيد من حرارة المداولات تبعاً لطبيعة الاستقبال غير العادية التي حظي بها الجنرال عون في العاصمة الفرنسية.

أثارت هذه الزيارة ردود فعل لافتة لما انطوت عليه من إشارات فرنسية وربما دولية حيال الأزمة في لبنان، حيث كان لافتا استقبال ماكرون للعماد عون في قصر الإليزيه، بما اعتبر “سابقة” لا يمكن إلا أن يكون لها مقاصد وأهداف، حيث أن تجاوز ماكرون للبروتوكول واستقباله “موظفا” لبنانيا برتبة قائد جيش يكشف آليات جديدة في تعامل باريس مع ملف لبنان.

واعتبر كثيرون في لبنان أن الرئيس الفرنسي ومن خلال استقباله لقائد الجيش يفتح ملف الانتخابات الرئاسية في لبنان الذي تقف حساباته وراء الاستعصاء الحالي لتشكيل حكومة في لبنان، ولا يكون بذلك قد تجاوز احتمالات تكليف عون برئاسة حكومة انتقالية للإشراف على الانتخابات فحسب، بل تعدّاها إلى مواجهة أسماء مارونية طامحة لهذا الموقع، خصوصاً جبران باسيل الذي يعتبر نفسه وريثاً “طبيعيا” لتركة عمّه الرئيس ميشال عون في منصب الرئاسة.

والسوابق على وصول قائد للجيش إلى رئاسة الجمهورية في لبنان جعلته تقليداً عرفه البلد في تجربة فؤاد شهاب قبل اتفاق الطائف، كما في تجارب إميل لحود وميشال سليمان ما يجعل من القائد الحالي مرشحا طبيعيا أيضا لمنصب رئاسة الجمهورية المقبل.

موقف حزب الله

لكن في ظل الأزمة الكبيرة التي سيرثها أيّ رئيس مقبل للبنان والتي خلّفها وجود “عسكري” في قصر بعبدا لم يلتفت إلى اللبنانيين على اعتبار أنه “بَيْ الكل” بل كان جلّ “عهده” يحاول توريث السلطة إلى صهره، ولا يزال يعاند ولأسباب معلومة ومجهولة في مساعدة الرئيس الحريري على تشكيل حكومة جديدة، فإن الأنظار تتجه إلى العماد جوزيف عون على أن يتمكّن من قيادة سفينة الإنقاذ خصوصاً أنه سيكون مدعوماً بشكل كبير من قبل الولايات المتحدة التي تعرفه حق المعرفة من خلال الزيارات العديدة التي قام بها قائد القيادة الوسطى في الجيش الأميركي إلى لبنان، والمعلومات التي لا شك أن السفيرة دوروثي شيا ومن قبلها السفيرة إليزابيت ريتشارد قد أبلغتاها إلى واشنطن حول التعامل “السلس” معه، ناهيك عن الدعم الفرنسي الأخير والدعم العربي الذي يمكن القول إنه تجلّى باستقبال سفير خادم الحرمين الشريفين في لبنان وليد البخاري لعون في منزله في اليرزة في سابقة لم تحدث من قبل.

أوساط حزب الله الذي يحكم قبضته على لبنان من خلال التحكّم بالمسارات السياسية والأمنية وقرار الحرب والسلم مع إسرائيل، تقول إنها مرتاحة إلى التعامل مع عون، وإنها مرتاحة أكثر إلى نتائج زيارته إلى فرنسا، رغم الشكوك الكثيرة التي تنتاب الحزب من سلوك واشنطن وباريس حيال الجيش اللبناني من حيث الإشادة الدائمة به وخصّه بالدعم دون سواه من مؤسسات الدولة الرسمية.

لا يبدو الجنرال جوزيف عون حالياً منشغلاً بمستقبل سياسي قد يكون أو لا يكون طامحاً للعبه، فأولويته المطلقة هي العبور من هذه الأزمة بأقل الأضرار الممكنة على المؤسسة التي يقودها، وهو يدرك أن استمرار هذه الأزمة قد يطيح بالسلم الأهلي وهو لن يقف حينها، بالتأكيد، موقف المتفرّج.