لم يَعُدْ، ومنذ أمد ليس بقصير، الكلامُ عن أزمةٍ داخل «التيار الوطني الحر» مجرد مادة إعلامية تُستخدم في السجالات السياسية بين التيار وخصومه.
فهذه الجماعة السياسية التي تحلّقتْ حول زعيمها ومؤسس «التيار» الجنرال ميشال عون، الذي صار رئيساً للجمهورية، تمرّ بمخاض حقيقي منذ أن نَصَّبَ عون صهرَه الوزير السابق النائب جبران باسيل رئيساً لـ «الوطني الحر»، وهو مخاضٌ بفصولٍ متوالية لأسباب ذاتية ترتبط بـ «التيارات داخل التيار» وبالصراعات القاسية التي خاضها المؤسس بعد تربُّعه على كرسي الرئاسة الأولى، وخصوصاً أن ولايته التي تشارف على الإنتهاء مع دخولها سنتها الأخيرة شهدت إنهياراً لا سابق له لـ «النموذج اللبناني»، في السياسة والمال والإقتصاد والإجتماع والمعيشة، وفي حال الدولة وتموْضعها الإقليمي.
وإخيراً، وليس آخراً، كشفت أزمة وزير الخارجية «المتنحّي» شربل وهبي (من فريق عون وتياره)، حقيقةَ ما يدور داخل «الوطني الحر» من خلافات، بعد العاصفة التي أحدثتْها تصريحاتٌ متناقضة لنواب ووزراء في التيار سابقين وحاليين وردات فعلهم حيال كلام وهبي والدعوة إلى إقصائه.
فمنذ اللحظة الأولى لكلام وهبي الذي تهكّم فيه على الخليجيين، ولا سيما المملكة العربية السعودية، سارع النائب الياس بو صعب إلى انتقاده ودعوته إلى التنحي، ما تسبب بزوبعة داخل صفوف النواب العونيين الذين إنتقدوا كلامه العلني قبل معالجة ذيول إطلالة وهبي التلفزيونية، ولا سيما أن بو صعب بدا أنه يعبّر عن قرار التيار بسحب الغطاء عن وهبي (ما تَكَرَّسَ لاحقاً ببيان رئاسة الجمهورية)، من دون العودة إلى التيار ومناقشة قضيةٍ بهذا الحجم.
لم تعد الخلافات التي تعصف بـ «التيار الوطني» مكبوتةً، واستدعاءات المحكمة الحزبية لناشطين سبق أن قدموا إستقالاتهم صارت علنية. لكن في المقابل ليس خفياً أن هذه الخلافات ما زالت كالجمر تحت الرماد، بمعنى أدقّ تحت سقف رئيس الجمهورية العماد عون.
فكل الخلافات تقف عند حدود رمزيته، ولن يغامر أي مستقيل أو معترض أو مستاء في إظهارٍ كاملٍ لحقيقةِ ما يدور من صراعات تجنُّباً لأي إنشقاقٍ كبيرٍ تحت عيون الرئيس المؤسس وخصوصاً أن الذين تركوا التيار وكانوا أعربوا لعون عن إستيائهم لم يكن حظهم كبيراً في أن يُقابَلوا بتَعامُل إيجابي مع ملاحظاتهم، فمنهم مَن كان يحيله إلى باسيل ومنهم مَن كان يتجاهل إمتعاضه ويؤيّد إبعاده، في الوقت الذي تعطي هالة عون لرئيس «التيار الحر» الغطاء الذي يمنع خروج الخلافات بحجمها الحقيقي إلى العلن.
وباسيل يدرك ذلك جيداً، فيمضي في مسعاه لإحكام قبضته الداخلية على مفاصل الحزب عبر تعيينات داخلية وتشكيل نواة حزبية صلبة حوله، مستفيداً من الإرث العائلي والحزبي ومن كونه يمثّل اليوم الناطق باسم «عهد عون» ورئيس أكبر كتلة نيابية مسيحية ورئيس أحد أكبر الأحزاب المسيحية أيضاً.
ورغم أن حجم الإنتقادات الداخلية يكبر أو يتضاءل بحسب الأحداث ومتغيراتها، إلا ان هناك ثابتة تتجلى بالذين عبّروا صراحة عن امتعاضهم وانتقاداتهم لقيادة التيار من داخل صفوفه، وتتعلّق بالفصل بين رمزية الماضي وأداء الحاضر.
ولا يقتصر الأمر على إبن شقيق رئيس الجمهورية الناشط نعيم عون الذي يعبّر دائماً عن إنتقادات قاسية في حق قيادة التيار، ومعه مجموعة من الناشطين الذين إنسحبوا من صفوف التيار أو ابعدوا رسمياً. فابتعاد إبنة عون ميراي الهاشم من دائرة المستشارين في القصر الجمهوري، يوازيها إنكفاءُ شقيقتها كلودين زوجة النائب شامل روكز المنقطع نهائياً عن كل ما يدور في التيار أو تكتله النيابي (لبنان القوي). إضافة إلى أن إستقالة مسؤول العلاقات الخارجية في التيار ميشال دوشاردفيان الذي لعب دوراً بارزاً ونشطاً منذ التسعينات، أظهرتْ الخللَ في الإدارة الداخلية للتيار، وتَفاقُم الصراعات بين الجيل القديم الذي رافق الجنرال عون من قياديين وناشطين وإعلامين، وهؤلاء يُظْهِرون إنتقاداتهم علناً، وبين الجيل الجديد الذي يرافق باسيل، منذ أعوام في مجالات عدة، ويعود الفضل للأخير في تقدُّمهم وحصولهم على مراكز داخل التيار أو خارجه.
وبين الطرفين تبرز فئةٌ ممتعضة وناقمة لكنها تلتزم الصمت الإعلامي، في حين أنها تؤكد حضورها في لقاءات متكررة تعقدها شخصيات سياسية نيابية وقيادية في «التيار الحر». وهذه اللقاءات تكشف عيّنةً من كلامٍ بلغةِ العتب والمعارضة لأداء التيار وسلوكه أخيراً، ولا سيما حيال ترك الأوضاع الإقتصادية والمالية تنهار من دون أي محاولة علاج ناجحة، والحاجة إلى إعادة قراءة مرحلة رئاسة عون التي كان يفترض أن تكون مرحلة إنقاذية بحجم الآمال التي عُلّقت على التيار بعد مخاض طويل من الصراع السياسي.
وهناك سلسلة إنتقادات تطال التعيينات الداخلية والتعيينات الحكومية على مستويات الإدارة والديبلوماسية والأمن، والتي لم تراع المحازبين من التيار بقدر ما راعت المحسوبيات وعلاقة المعيَّنين بباسيل مباشرة. علماً أن هذا الأمر إنسحب سابقاً على تسمية المرشحين للتوزير وللنيابة. فمآخذ الحزبيين أن باسيل يتفرّد بكل القرارات، وأنه حوّل معركته الشخصية للوصول إلى رئاسة الجمهورية، والعقوبات الأميركية عليه، إلى أزمة عامة طالت التيار ككل، من دون النظر إلى تجربة وصول عون بسيئاتها وحسناتها. ومن إعتراضاتهم ان حصة التيار في الإدارة تضاءلت لمصلحة مجموعة من خارج الحزب تربطهم علاقات مع قيادة التيار، ما عزز فرص مجموعة من رجال الأعمال والديبلوماسيين والمستشارين على حساب الحزبيين الأصيلين.
ومآخذهم أيضاً أن السقطات التي يرتكبها قياديون في التيار إعلامياً وسياسياً، لم يعد ممكناً التغطية عليها، وتجاهلها، في حين انها تعطي صورة مشوَّهة لموقع التيار في المعادلة السياسية الداخلية. ومن الإعتراضات كذلك، ان التيار إنطلق من كونه تياراً شعبياً، ورغم الحاجة الى مأسسته من خلال تشكيل الحزب، إلا ان تأطيره وحصر الصلاحيات في يد مجموعة من الاشخاص، أفْقده الزخم الذي كان يمكن أن يُبْقيه حالة شعبية حية لدى وصوله الى السلطة والإفادة منها. في حين أن الحال العونية اليوم تسجل تراجعاتٍ، ما عدا عبر وسائل التواصل الإجتماعي.
لكن إلى أي مدى يمكن لهذه الإعتراضات تشكيل حالة منفصلة؟
رغم أن اللقاءات لكوادر من داخل التيار تستمرّ بوتيرة متقطعة، إلا أن سقفها حالياً ما زال مضبوطاً بحكم عوامل عدة. فالمآخذ لا تعني مطلقاً إبتعاد المعترضين عن السياسة العامة للتيار بمعنى الإنتماء «التاريخي» للعونيين، أي أن هذه الفئة، سرعان ما تعود للإنضواء فوراً تحت سقف الحزب عندما يندلع أي خلاف سياسي بين التيار وخصومه أو مع حلفائه. ولو أن لبعضهم تَمايُزاتٍ عن الخطاب السياسي لباسيل وأدائه في بعض المحطات، ألا أن الجميع ما زال يلتزم سقف القراءة السياسية العامة للتيار.
كذلك فإن بعض المعترضين، ما زالوا متأرجحين في إظهار مواقفهم المعترضة لأن الكلمة الفصل تبقى لعون الذي يرفض أي إنتقاد يُوجَّه لباسيل، والأخير ما زال يُظْهِرُ تفوّقه على خصومه داخل التيار، وقدرته على التمايز، بعدما أظهر قلة منهم «شجاعة» المواجهة في إظهار إعتراضهم على طريقة إدارة ملف قانون الإنتخاب سابقاً والموقف من الإحتجاجات الشعبية، وصولاً الى تشكيل الحكومة.
أما الأمر الأكثر إلحاحاً، فهو أن الإنتخابات النيابية على الأبواب، وهناك بين النواب الحاليين مَن لا يريد أن يغامر بالرصيد الذي يمدّه به «التيار الحر» في دوائر يتحول فيها الناخب للحزب أكثر مما هو للشخص نفسه. وتالياً من الصعب حالياً الخروج من عباءة الحزب وتكوين حيثية مستقلة بمعزل عن قرار التيار تحديد المرشحين للإنتخابات.
أما المرشحون من غير النواب، فمن الطبيعي ان يلتزموا الصمت اليوم، في إنتظار قرار توزيع المرشحين على الدوائر وإختيار الأنسب منهم. علماً أن باسيل يعرف مكامن ضعف بعض النواب والمرشحين للنيابة، ومكامن قوة البعض الآخر في دوائر حساسة، وهو يُتْقِن اللعب على وتر المنافسة وإبقائها حية إلى اللحظة الأخيرة من أجل إختيار المرشحين، وهو ما يجعل من السهل عليه التحكم بالنواب الحاليين والقيادات الحزبية. كذلك فان الإنتخابات تحتاج إلى مال، والمال المحلي أو الإغترابي أو الخارجي في يد قيادة التيار، ومن الصعب على المتموّلين من التيار أو أصدقائه أن يغامروا في خوض الإنتخابات، فردياً، أو دعم مرشحين، فيما الوصول إلى المجلس يحتاج رافعةً حقيقية وتحالفات، وإن كان للبعض حيثية عائلية أو إقتصادية، على غرار مَن ترك التكتل أخيراً.
ويبقى أن الإنتخابات ستكون مناسبة لباسيل لشَدّ العصب، مهما كثرت الخلافات الداخلية، والمعترضون الذين يزداد عددهم ما زالوا يتعاملون وفق معادلة «جعجعة بلا طحين».