كتب د. فادي كرم في “نداء الوطن”:
تصَاعدَ التنافس بشكل كبير في لبنان، بعد انتفاضة تشرين 2019 الشعبية، بين عدد من المجموعات المدنية والاجتماعية والنقابية والسياسية، المتعدّدة المنشأ والمتناقضة الفكر، حول الطروحات التغييرية بأشكالها المتنوّعة، العميقة منها والحقيقية، والسطحية ايضاً والصورية، وتداخل بعضها ببعض، وركب موجاتها الكثير من المتناقضين الطامحين، الجدد والقدامى العائدين من الزمن الاحتلالي الغابر، القابعين في متاحف السياسة الغوغائية. وتأمّل الشعب اللبناني خيراً بالوعود الوهمية الفضفاضة، ولكنه فَقَدَها سريعاً بوصوله الى الانهيار المعنوي، مضافاً الى الانهيارات المالية والاجتماعية والاقتصادية والخدماتية، فجاءَ هذا التنافس مُساعِداً في عملية الهبوط الشامل التي دفعنا اليها المستوى التمثيلي والتنفيذي والسياسي لافرقاء السلطة الحاكمة، فأسرعنا الى الدخول الجهنّمي الموعود من قبل اعلى السلطات، واخطر الاصابات التي سبّبها هذا الواقع كانت التي اصابت الصميم فدمّرت المعنويات والآمال.
لا شك بأنّ التشخيص الدقيق لاسباب الواقع المزري الذي يعيشه الشعب اللبناني ضرورة قصوى لفهم طبيعة الامراض التي يُعاني منها هذا البلد الصغير، فمشاكله التقنية والاقتصادية والمالية ليست عاصية عن الحلول والمعالجات التغييرية الكفيلة بعكْس المسار التقهقري للسلطة الحاكمة الى مسار مناقض، اي المسار التطوّري الطبيعي للمجتمعات الانسانية نحو الافضل.
يتساءل المواطن اللبناني كيف ان وطنه السبّاق بالتطور في كافة المجالات، قد تحوّلت طبيعته الى جهنّم الحالية، ولكن بنظرةٍ متجرّدة الى التغيير السياسي الذي حدث في لبنان في السنوات الاخيرة، يتفهّم الانسان العاقل اسباب هذا السقوط الشامل. فبتشريحٍ تاريخي بسيط نجد ان النظام اللبناني المُميّز والمشابه للفسيفساء اللبناني الاجتماعي، قد فتح المجال للنجاحات الاقتصادية وللقطاعات العلمية والخدماتية والاستثمارية، وقد كان المضمون السياسي مناسباً للتقدّم الطبيعي، ولكن مع الخيارات التي استجدّت في السياسات الرسمية للدولة اللبنانية فقد وُضع لبنان في درب العواصف التي دمّرت كل النجاحات السابقة.
شهد تاريخ لبنان الحديث الكثير من التحرّكات الشعبية، المطلبية والسياسية والفئوية، وقد كان لبعضها الاثر السلبي على الاوضاع الوطنية العامة، ليس لان مطالبها لم تكن محقّة، بل لان اهدافها كانت تغييرية نحو الاسوأ، ولم تحمل حلولاً حقيقية، بل امتلأت بالعقَدْ. فبالعودة الى سبعينات القرن الماضي، شهدنا تحرّكات نوستالجية من مجموعات لبنانية عبثية، استُغلّت من قبل لاعبين إقليميين وانظمة طامعة بلبنان وهادفة لإلغاء صيغته ولضمّه لها. ولكن مستجدّات المرحلة الاخيرة من تاريخ لبنان كانت الاكثر تأثيراً، مع بروز تيار جديد كان اكثر الاطراف السياسية الذي شهر الاصلاح والتغيير كراية له، ولكنه لم يستطع ان يصدق بوعوده، لان مفهومه للتغيير بُنيَ على السلطوية والحماية الشخصية، وعلى استخدام اجهزة الدولة لنصرته على الآخرين، وليس لتقوية مفهوم المؤسسات، فألغى بذلك الديمقراطية والحرّية السياسية، وقضى على المسار التغييري نحو الافضل الذي كان وعَدَ به. أمّا الحركات التغييرية ما بعد انتفاضة 17 تشرين فهي رافضة للجميع ومُنصّبة لنفسها الامل الانقاذي الوحيد للشعب اللبناني، تماماً كما قدّم “التيار الوطني الحرّ” نفسه سابقاً، ولكن بالفعل فإن بعض هذه الحركات، بأفكارها وذهنيتها وطروحاتها الاقتصادية تُمثّل رجوعاً الى الخلف، اي الى مفهوم استخدام اللبنانيين وقوداً وذخيرةً لصالح المشاريع التوسّعية الاقليمية، وتحويل الدولة الى مزرعة رعاية للزبائنية، وبذلك قتل الروح التنافسية والاستثمارية للشعب، وانهاء مقومات النجاح للبنان، وهو حتماً الحياد البنّاء والاستقرار السياسي.
إن هذه الطروحات القديمة المُتجدّدة لهذه المجموعات المتزمّتة ليست الا تغييراً تدميرياً مشابهاً لجهنّم الحالي، فهي بالمضمون ليست تغييراً بل إختلاف بأسباب الموت.
إن التغيير في الاسماء السياسية والصور البرّاقة والجاذبة للشعب الطيّب المتهافت الى التحسين، هو تغيير في الادوار لن يؤتي إنقاذاً، فالمتعاونون سابقاً مع الاحتلالات المتتالية الذين اسقطتهم ثورة الارز، ارتموا بعدها بحضن المُنقذ صاحب التسونامي الغدّارة، فساهموا بتقويته، واصبح هو الاستمرارية لهم حينها، وها هم اخيراً، وبعد تأكدّهم بضموره يخلونه للعودة بوضوح الى محور الظلم الذي يضمّهم مع اسوأ الدول عيشاً في العالم، محور المزارع المليئة بالجثث الذي ينخرها السوس والديدان والجرذان.
امام هذه الاوضاع السوداوية المتأتية من خيبة الشعب اللبناني بالمُنقذ المُخادع، وبالمُنتفض الكاذب، تبقى الآمال معقودة على التغيير الحقيقي. فالقرف ممنوع وفقدان الرؤية خطيئة، والابتعاد عن الدور الوطني استسلام بحق جدودنا وبحق الاجيال القادمة. قُدِّرَ علينا ان نواجه من اجل كرامتنا، فتعالوا نتحمّل هذه المسؤولية، بالوعي اولاً، وبتحديد المرض ثانياً، وبالتحلّي بالجرأة لمواجهتهم واسقاطهم ومحاسبتهم ثالثاً، والمحطة الاولى في ذلك هي الانتخابات النيابية القادمة لا محالة.