كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
لم يعد سراً انّ أركان العهد و«التيار الوطني الحر» يسعون الى دفع الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري الى الاعتذار. فالتسويق لـ«البديل» من بين «البدائل» جار على «رأس السطح» وهو ما طرح أكثر من سؤال حول إمكان أن يحققوا ما أرادوه، ام انهم قادوا من دون قصد الى التكليف الثالث للحريري؟ وفي الحالتين من سيدفع الثمن بالإضافة الى الشعب اللبناني؟
أخطر ما في السيناريوهات المطروحة في شأن تشكيل الحكومة العتيدة انّ المواجهة السياسية القائمة ما زالت في أوجها أيّاً كانت الكلفة المقدرة على لبنان واللبنانيين جميعاً، حتى لو بلغت مرحلة القضاء على آخر مقومات الدولة ومؤسساتها وانقطعت الخدمات التي غابت في حدها الادنى وصولاً الى مرحلة المناشدة الدولية بتوفير الدعم للبنان على قاعدة إنقاذ البلاد من الهلاك المنتظر. وهو ما ترجمه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بأدقّ العبارات المستخدمة في القانون الدولي عندما رفع في دعوته الى مؤتمر المانحين بعد يومين شعار «تمويل نظام الخدمات العامة» في البلاد.
وعليه، حذّرت مراجع سياسية وديبلوماسية من خطورة العنوان الذي رفعه ماكرون على النظرة الدولية الى لبنان. فالعجز المتمادي في توفير أبسط مقومات الحياة الطبيعية في البلاد له عدة معان دولية كبرى، ان اتخذت الإجراءات المنتظرة قرارات خارج ما هو مألوف من تدابير تجاه اي بلد فقدت فيه السلطة القدرة على إدارة شؤون الدولة العادية وخدماتها العامة وباتت تهدد العمل المنتظم فيها إلى درجة يخشى ان تتفلّت الأمور الى ما لا يحمد عقباه.
لا يتوقف الديبلوماسيون، الغربيون منهم خاصة، في الفترة الاخيرة امام اي نموذج في العالم يشبه النموذج اللبناني. فما عانته الشعوب الافريقية وأخرى في دول اميركا اللاتينية لا يجاري في وجوهه أيّاً من الحالات التي يعيشها اللبنانيون ويفضّلون ان تكون التجربة اللبنانية الأولى من نوعها. ولذلك رفض احد الديبلوماسيين اي تشبيه بين ما يعيشه لبنان والتجارب الدولية الاخرى التي نادت الأمم المتحدة بدعمها وإدارة شؤونها، معتبراً انّ الحالة اللبنانية قد خرجت من إطار التجارب التي عاشتها دول كالصومال والسودان ومالي بعدما اقترن الفقر بالحروب الداخلية التي عاشتها وما رافقها من مجازر ضد الانسانية.
ولذلك يصرّ ديبلوماسي آخر وهو يتحدث مذهولاً – عندما يدخل في كثير من التفاصيل – انّ لبنان يحترق من اجل ان يشعل بعض مسؤوليه «سيكارته الخاصة»، في تذكير غير مباشر بما فعله نيرون بروما. ويضيف مستطرداً: «سيكون على العالم الحر أن يساند فرنسا في دعوتها التي لا تقف عند قرارها بدعم الجيش اللبناني والقوى الامنية الاخرى لتطاول وجوهاً اخرى من حماية اللبنانيين، وخصوصاً في مجالات اجتماعية وصحية ومالية».
ليس في ما سبق محاولة لتجريم أيّ من المسؤولين اللبنانيين او إدانتهم، فالمحاكمة الشعبية قائمة منذ فترة وإن بالأسلحة الصامتة، إنما من أجل الإضاءة على حجم ما جَنّدته القوى المتنازعة مباشرة من الاسلحة التي أطاحت مقومات عيش اللبنانيين رغم تقديرهم المسبق لحجم الأزمة التي دخلتها البلاد والتي لم تغيّر نتائجها شيئاً من مواقفهم ورغباتهم، او تحدّ منها للتلاقي عند نقاط مشتركة بات البحث عنها كمَن «يبحث عن إبرة في كومة قش».
والأغرب من كل ذلك انّ بعض المسؤولين سبق المواطنين في شكواه ونعيه متناسياً المسؤوليات الملقاة على عاتقه ومتمسّكاً بما يرغب بالحصول عليه من مواقع محصنة واخرى خدماتية، متجاهلاً واقعاً مرّاً دفع باللبناني الى موقع الأسير الذي يرغب أو يتمنى الخدمة العامة المفقودة، او تلك التي لم يعد قادراً على الحصول عليها. فيما هم منشغلون بحروب داخلية بحثاً عن حلول لعقَد حكومية وسياسية لم تعد تقنع أحداً.
وبمعزل عن كل هذه القراءة السلبية للتطورات يمكن القول إنّ الازمة الحكومية دخلت مرحلة جديدة بعد السبت الماضي، عقب سلسلة المواقف المعلنة وتلك التي بقيت طَي الكتمان، وتحديداً تلك التي عبّر عنها بيان المجلس الاسلامي الشرعي الاعلى المعلن على تشدده، وموقف مجموعة رؤساء الحكومات السابقين التي وضعت الأزمة في مكان آخر. وهو ما دفع أحد الذين شاركوا في هذه الاجتماعات الى قراءة ما حصل من باب ما قادت إليه مطالب رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، سواء أراد ذلك عمداً ام لا.
وأضاف في لقاء خاص انّ باسيل بأدائه المنادي بحماية مصالح المسيحيين وحق رئيس الجمهورية في تسمية الوزراء المسيحيين جميعاً الى درجة مقاربة الثلث المعطّل، ومنع رئيس الحكومة من تسمية احد منهم، رغم حقهما الثابت والمحصور بهما والمنصوص عنه في الدستور بتسمية جميع الوزراء. ولذلك، وجد الرئيس المكلف نفسه مضطراً للعودة الى مَن كلّفه المهمة. فبالإضافة الى رئيس مجلس النواب نبيه بري فإنه لجأ الى المجلس الاسلامي الشرعي الاعلى ورؤساء الحكومات السابقين للتشاور فيما بات حقاً للطائفة السنية، فنال منهم دعماً جَمّد بعده البحث في اي خطوة تؤدي الى الإعتذار عن مهمة التأليف مُكرهاً، لا بصفته راغباً في الخطوة أو مقتنعاً بها.
وبناء على ما تقدّم، يُجمع المراقبون من مؤيدي التطور الجديد على التأكيد انّ المواجهة بلغت مراحل متقدمة لم يعد ممكناً على أيّ من طرفي النزاع التراجع عنها، وهو ما طرح السؤال: هل تغيرت قواعد اللعبة المتحكمة بعملية التأليف؟ وهل فتحت آفاقاً جديدة توحي بمزيد من التطورات التي لا يتوقعها أحد؟.
بالتأكيد يأتي الجواب «نعم»، لقد تغيرت قواعد اللعبة الى درجة ملحوظة. فالحريري نال التكليف الثالث السبت الماضي موقّعاً من أعلى مرجعية دينية قالت كلمتها هي دار الفتوى، التي أضافت الى دستورية مهمته تكليفين إضافيين، أحدهما كرّسته جلسة مناقشة رسالة رئيس الجمهورية الى المجلس النيابي الشهر الماضي بعد التكليف الاول في الاستشارات النيابية الملزمة التي جرت في حينه على قاعدة «شاء مَن شاء وأبى مَن أبى».
وعليه، ينتهي هؤلاء المراقبون الى الحديث عن معادلة جديدة تختصر ما حصل، فتقول إنّ المواجهة باتت محصورة بين الحريري وباسيل كترجمة عملية لِما رافقها منذ البداية. وعندها يمكن القول انّ التطورات التي قادت الى التكليف رفعت من حدّة المواجهة بينهما. وبالتالي بات السؤال المطروح إن كان باسيل قد أخطأ في ما مضى إليه أم أصاب؟ ومن سيدفع الثمن بالإضافة الى الشعب اللبناني؟ وهل هناك ضحايا ممّن حلموا بالدخول الى السرايا الحكومية للمرة الاولى في حياتهم؟ وإن كان ذلك وارداً هل يصحّ المثل القائل «من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه؟».