جاء إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «العمل مع شركاء دوليين لإنشاء آلية مالية تضمن استمرار الخدمات العامة اللبنانية الرئيسية»، ليشكل مساراً متقدماً للمبادرة الفرنسية التي أطلقها ماكرون من لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس العام الماضي.
فالمبادرة الفرنسية اتخذت، أوجهاً عدة، منذ أن زار سيد الإليزيه بيروت والتقى القادة اللبنانيين في قصر الصنوبر، وما تلا ذلك من إرسال موفدين إلى لبنان واستقباله (فبراير الماضي) الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري ومن ثم قائد الجيش العماد جوزف عون (26 مايو الماضي).
بعد الانفجار الذي هزّ بيروت ومعه دول العالم التي استنفرت أجهزةَ الإغاثة، سارعت باريس إلى وضع تصوُّر تساهم من خلاله في حلّ للأزمة التي اندلعت إثر احتجاجات 17 أكتوبر عام 2019 وفاقمها انفجار مرفأ بيروت واستقالة حكومة الرئيس حسان دياب على وهجه.
انطلق التدخلُ الفرنسي من عوامل إنسانية بحتة، دلّت عليها زيارة ماكرون (في 6 أغسطس 2020) الذي بدا متأثراً للغاية من حجم الانفجار والمآسي التي تركها والأضرار التي لحقت بسكان بيروت ومؤسساتهم.
وتَصَرَّفَ الرئيس الفرنسي تحت وطأة الصدمة التي أحدثها «بيروتشيما» وهاله ما رآه من ردات فعل اللبنانيين تجاه الكارثة ورفْضهم للطبقة السياسية.
من هنا كانت زيارته للسيدة فيروز ولقاءاته الشعبية المتكررة في الشوارع المنكوبة تعبيراً عن شق إنساني بحت، وتأكيداً على الهوية الحضارية والثقافية التي تجمع بيروت وباريس.
لكن ماكرون أفاد من الفرصة الإنسانية ليطرح مبادرة تتعلق بتشكيل حكومة مهمة من اختصاصيين تهدف إلى حل الأزمة، بعدما خُيّل إليه أن ردات فعل السياسيين اللبنانيين قد تكون مناسبة للخروج من الأزمة تحت وطأة الانفجار.
زار ماكرون بيروت مرتين (6 أغسطس والأول من سبتمبر)، وكاد أن يزورها مرة ثالثة قبل نهاية العام الفائت بعد تَعَثُّر المبادرة، لولا إصابته بفيروس كورونا المستجد، فأرجأ الزيارة ولم يتم تحديد موعد آخر لها.
واستعاض عنها بإيفاد وزير الخارجية جان إيف – لودريان حاملاً معه تحذيرات قاسية، لكنها أثبتت عدم جدواها.
وَعَدَ القادة اللبنانيون ماكرون بالتجاوب مع طرْح الحكومة التي وضع خطوطها العريضة، لكن الوعود اللبنانية ظلت حبراً على ورق، لأن ترجمتها لدى البعض راوحت من حكومة المَهمة الإصلاحية، إلى حكومة وطنية، إلى حكومة تضم اختصاصيين وسياسيين معاً، إلى حكومة يتمسك بها كل فريق بوزاراته السيادية ولو من ضمن الاختصاصيين، ومن ثم إلى حكومة فيها الثلث المعطل لرئيس الجمهورية ميشال عون، وإلى حكومة يتساجل حولها عون وفريقه وفي مقدمه النائب جبران باسيل مع الحريري حول الصلاحيات.
والمشكلة التي واجهت ماكرون متعددة الاتجاه، فالبعض من القوى السياسية المعارضة لتحالف عون و«حزب الله»، اعتبر أن فرنسا ساهمتْ في إبقاء الطرفين متقدميْن بعد مرحلة استهدافهما بسبب انفجار المرفأ، وأنها من خلال لقاءات عقدتها مع الحزب ومسايرتها لإيران، تساعد على إبقاء «حزب الله» طرفاً معرقلاً لتشكيل الحكومة.
لكن عون ومعه حزبه (التيار الوطني الحر) يعتبر من جانبه أن باريس تقف طرفاً مؤيداً لطروحات الحريري ورغبته بالتأثير في الحكومة من خلال التحكم بوزراء مسيحيين.
في المقابل فإن ماكرون ساهم في نظر المعترضين على مبادرته في تعويم الطبقة السياسية رغم أنه كرر أكثر من مرة انتقاده لها، وهو قال إن «عاطفتي تذهب نحو شعب لبنان، أما قادته فلا يستحقون بلدهم.
لبنان نموذج تعددي في منطقة عصف بها الجنون، شعب لبنان رائع وقدّم في الخارج نجاحات فكرية وثقافية غير مسبوقة».
زار الموفدون الفرنسيون تباعاً بيروت، لكن الانطباعات التي خرج بها هؤلاء جميعاً، ومن ثم زيارة الحريري إلى العاصمة الفرنسية، وما بينهما من طروحات وأفكار حول لقاء لبناني في باريس أُجهضت في مهدها، ورسالة عون إلى الإليزيه، أسفرت عن أمر واحد هو أن المبادرة الفرنسية فشلت، لكن الجميع يريدون منها اللافتة فقط، ولا يعلنون فشلها، بمن في ذلك الفرنسيون.
وباريس التي تتلقى شكاوى الأفرقاء اللبنانيين وتَبادُل الاتهامات حول المسؤول عن فشل المبادرة وتَعَثُّر تشكيل الحكومة، تعيش على وقع تجاذبات حادة بين الإليزيه ووزارة الخارجية والمخابرات الفرنسية.
وكل منهم لديه وجهة نظر في التعامل مع لبنان، وفق العلاقات التي تربط هذه الإدارات بمسؤولين وقوى سياسية.
من هنا تعددت الآراء حول مستقبل المبادرة التي أطلقت في البدء حكومياً، لتتطور تدريجياً نحو الدفع في اتجاه إجراء الانتخابات النيابية.
حتى أن زيارة لودريان إلى بيروت لم تُترجم بأي كلام حول الحكومة، بل إنها تمحورت حول الانتخابات المقبلة وضرورة إحداث تغيير فعلي في السلطة. علماً أن ماكرون كرر أكثر من مرة دعوته اللبنانيين إلى التغيير، معتبراً أن مبادرته هي لإنقاذ النظام السياسي والمالي، لكنه لمح خلال لقاءات صحافية إلى أن اللبنانيين مسؤولون عن اختيار السياسيين الذين يمثلونهم.
في حين كان لودريان واضحاً وحاداً أكثر حين دعا المجتمع المدني إلى إحداث تغيير فعلي خلال الانتخابات.
وتَزامُناً مع المبادرة في شقها السياسي، ذهبت باريس إلى التلويح بعقوبات على شخصيات لبنانية تعتبرها مسؤولة عن عرقلة تكليف الحكومة.
لكنها لم تتمكن من جعْلها عقوبات أوروبية، بعدما اعترضت بعض دول الاتحاد الأوروبي على ذلك، وأرادت إبقاء العقوبات محصورة بكل دولة على حدة.
وهي تقول إنها وضعت أسماء بعض الشخصيات ضمن لائحة عقوبات، لكنها لم تتحدث تفصيلاً عن ماهيتها ولا عن هوية الشخصيات التي ستشملها. وتراوح العقوبات، بحسب ما تردد، بين عدم إعطاء تأشيرات دخول (رغم أن هناك مسؤولين لبنانيين يحملون جنسيات فرنسية ولا يمكن أن تطالهم العقوبات) أو التدقيق بحسابات مصرفية.
ومع بقاء التعثر الحكومي لأشهر إضافية، جاء كلام ماكرون الأخير ليضع المبادرة في اتجاه مختلف تتقاطع فيه الرغبة في حماية الاستقرار وتأمين الحد الأدنى من التمويل لقطاعات حيوية، من خلال قوله «نعمل فعلياً مع عدد من الشركاء في المجتمع الدولي حتى نتمكن في مرحلة ما، إذا استمر غياب الحكومة، من النجاح في الحفاظ على نظام تحت قيود دولية، ما يسمح حينها بتمويل الأنشطة الأساسية ودعم الشعب اللبناني». فماذا يعني هذا الكلام؟
من المفيد التذكير بأن باريس سبق أن عقدت مؤتمراً دولياً لدعم لبنان في ديسمبر الماضي، وحينها ربط ماكرون المساعدات بتشكيل حكومة جديدة. وكلامه الأخير جاء قبل أيام من عقد باريس مؤتمراً لدعم الجيش، وتأمين الاحتياجات التي نقلها إلى وزيرة الجيوش الفرنسية، قائد الجيش العماد جوزف عون في زيارته الأخيرة لباريس.
ما يعني أن حجم الاحتياجات التي يطلبها الجيش ويعرفها الفرنسيون تهدف إلى منع انزلاق المؤسسات الأمنية إلى واقع متعثر، يجعل من الصعب على عناصرها القيام بمهماتهم الأمنية.
وهذا الأمر ينطبق على القطاع العام الذي تأثرت رواتب موظفيه بالانهيار المالي ما يؤثر سلباً على كل القطاعات الحيوية.
وما عناه ماكرون هو أن حجم المشكلة المالية سيترك سلبيات على قطاعات حيوية كالمياه والكهرباء والمحروقات والصحة، وهذه العوامل كلها تشكل أسباباً كافية لانهيار لبنان.
وغياب الحكومة يعني أن النظام كله سيكون عرضة للاهتزاز، ما يستدعي عمل فرنسا مع شركائها الدوليين من أجل تأمين المساعدات المالية لهذه القطاعات كي تبقى صامدة.
المشكلة أن تأمين هذه المعونات يتعلق أيضاً برغبة المجتمع الدولي بالحفاظ على الاستقرار في لبنان، وهذا حالياً يبدو من الأولويات.
لكن الخارج لا يثق بالمؤسسات الرسمية وبالقوى السياسية المشاركة في السلطة، والتي يمكن أن تمرّ عبر أقنيتها المساعدات المالية. وهناك طروحات متقدمة كإنشاء صناديق خاصة لدعم هذه القطاعات من دون المرور بالدولة اللبنانية مباشرة.
وقد حصل أمر مشابه أثناء تقديم المساعدات للمتضررين من انفجار بيروت، والتي قُدمت مباشرة من الدول إلى المؤسسات الإنسانية أو تحت إشراف الجيش، ولا سيما بعد حصول فضائح طالت بعض المساعدات، كالطحين العراقي الذي فسد في المدينة الرياضية.
أما النقطة الأكثر مدعاة للحذر فهي تلك التي استُشفت من كلام ماكرون حول الأفق المسدود أمام تشكيل الحكومة. لأن أي مخرج يتعلق بصناديق إغاثة مالية لدعم القطاعات الحيوية، يعني أن فرنسا لم تعد تعوّل على الحكومة الموعودة، في انتظار إجراء انتخابات نيابية، وأنه لم يتبق من مبادرتها سوى الشق الإنساني الذي تسعى من خلاله إلى دعم اللبنانيين مباشرة بما تيسّر وعبر «ممرّ إنساني آمِن»، في انتظار أي تسوية إقليمية ودولية حول لبنان.
وهكذا فإن مبادرة ماكرون «المتحوِّرة» استنزفت فصولَها المتلاحقة رمالُ بيروت المتحرّكة فوق صفيحٍ من الأجندات المحلية والإقليمية المتلاطمة والأطماع السلطوية والأحقاد الشخصية، ما جعل باريس المشغولة البال على النموذج اللبناني تنتقل من سيناريو إلى آخَر كمن يردّد «العين بصيرة واليد قصيرة».