كتب د. سليم زخّور في نداء الوطن:
دفعت أزمة النظام القائمة في لبنان والتي تعمقت خلال السنتين الماضيتين للبحث عن حلول، يصفها البعض على أنها جذرية أو بنيوية يمكن أن تعالج نزف لبنان الدولة والشعب. وقد برزت من ضمن هذه الطروحات الدعوة إلى تغيير النظام السياسي في لبنان نحو تكريس قواعد الفدرالية في البنية الدستورية للنظام بما يخدم إدارة التعددية اللبنانية. وقد قدم العديد من الباحثين أو الداعين للفدرالية أطروحات مختلفة، على أنها الحل للمشاكل التي يعاني منها لبنان. وكأن الفدرالية حل سحري لكل الإشكاليات القائمة.
في الواقع تنشأ الأنظمة السياسية من خلال المؤسـسات الدستورية، في إطار تجسيد السلطة المنوطة بها، لإدارة شؤون المواطنين وتنظيمها. فلا بد أن تنشأ هذه المؤسـسات بارتكازها على أسـس متينة في المجتمع، وهي تكون في إطار الإجابة على حاجات هذا المجتمع، فلا تنشأ بشكل غريب عنه أو غير متناغم معه، فالمؤسـسات الدستورية هي نتيجة اتفاق بين الوحدات المكونة للمجتمع، ونتيجة تسويات بين هذه الوحدات، فمفهوم الدولة كمجموعة مؤسـسات تتمتع بالسلطة لإدارة الشأن العام والمصالح المشتركة للمواطنين يقوم على تسوية بمستويين.
المستوى الأول هو التسوية الفردية، التي يقوم بها المواطن مع نفسه، عندما يرتضي التخلي عن سيادته في العديد من المجالات لصالح الدولة مقابل حفاظ الدولة على حقوقه، ومصالحه.
أما المستوى الثاني، فيقوم على التسوية المجتمعية، أي التسوية بين الأفراد والمجموعات لتشكيل الإدارة المشتركة لشؤونهم من خلال تحديد شكل النظام السياسي وآليات عمله. إن التسوية على هذا المستوى، هي أكثر ما يعنينا في قيام المؤسـسات الدستورية، خاصة وأنها لا يمكن أن تكون تسوية أبدية دائمة، إنما تكون متحركة تجاوب على حركة المجتمع فيها.
يبقى الإنسان إذا هو الأساس في تشكيل الأنظمة السياسية، بل تشكل هذه الأنظمة انعكاساً لقيمته، وموقعه، وعلاقاته، من خلال بنية مجتمعية متماسكة تضمن التنمية المستدامة للدولة بما يحفظ مستقبل الأجيال المقبلة. لذلك لا يمكن أن تكون الفدرالية هي الحل، من دون السعي لبناء إنسان يضع الأسس الفدرالية، ويحرص على عملها وفق الأصول اللازمة. كل الطروحات على مستوى السطح تبقى قاصرة عن معالجة جذور المشاكل العميقة، المتمثلة في بنية المجتمع والتصورات التي يتبناها المواطن تجاه العديد من القضايا. إن أي عمل لتطوير النظام سياسي، لا بد أن ينطلق من السعي لتطوير الإنسان، وبناء ثقافة جديدة تواكب الطروحات الجديدة لضمان نجاحها.
أصبح الوضع الحالي في لبنان، مع تراجع قيمة الإنسان، وفقدان الروابط الأخلاقية، أكثر إلحاحاً للتركيز على بناء الإنسان، خاصة من خلال وقف انهيار المنظومة التعليمية والعمل على تطويرها بأسرع وقت ممكن. لن يكتب النجاح لأي نظام جديد في لبنان، اذا ما تعمق فقدان المنظومة القيمية للمجتمع، فلبنان لن ينهض من دون قيم ترعى علاقات المجتمع وتضع الأطر العامة لمسيرته نحو نهضة ثقافية تضمن الاستقرار السياسي، وعمل مؤسساته الدستورية بما يحفظ رفاهية المواطنين ومستقبلهم. وذلك من خلال تطوير نظرة المجتمع إلى مجموعة من القضايا الكبرى، لتحقيق نهوض ثقافي فاعل يرتكز على منظومة قيمية يساند المجتمع في تحقيق التقدم الحضاري.
لقد سعى علم الاجتماع إلى وضع القواعد المشتركة في فهم حركية المجتمعات، وسعيها لتحقيق النهضة التنموية، من خلال التركيز على سلم للقيم المشتركة، يشمل التصورات الكبرى للمجتمع حول عدد من القضايا الكبرى. وقد عرفت هذه الأطر من خلال “نظرية التوجهات القيمية”، التي أثبتت أن تنمية المجتمعات يمكن قياسها من خلال مجموعة من القيم المشتركة. وذلك عبر تحديد التوجهات القيمية بناء على مبادئ نمطية، ناتجة عن تفاعل ثلاثة عناصر رئيسة، ويمكن تمييزها تحليلياً لعملية التقييم، وهي العناصر المعرفية، العاطفية، والتوجيهية، التي تحدد الإتجاه النسقي لأفكار الإنسان وأفعاله بحل المشكلات البشرية الشائعة.
وتتعلق المشكلات الإنسانية المشتركة، التي يفترض أن يتم تقديم حلول لها، بنظرة الإنسان إلى الإنسان الآخر، وهذا يرتبط بالنظرة إلى الكرامة الإنسانية القائمة على ثلاثة مفاهيم هي: الحريّة والعدالة والسلام. بمعنى آخر كيف يحدد الإنسان موقعه من هذه القيم، وإلى أي مدى تضع الإطار لعلاقاته مع الآخرين. فالنظرة للآخر تشكل مدخلاً لفهم المسار الذي تتطور في إطاره المجتمعات والدول، وأيضا العلاقات بين الشعوب، والثقافات والدول المختلفة.
المسألة الأخرى تتعلق بنظرة الإنسان إلى الطبيعة، وكيفية التعامل مع المصادر والثروات التي تؤمنها الطبيعة لكل دولة من الدول، حيث ما زالت الطبيعة تشكل المصدر الرئيسي للثروات يجب الاستفادة منها بطريقة مستدامة، بالإضافة إلى ضرورة إيجاد مصادر بديلة للطاقة من داخل الطبيعة.
كما تشكل نظرة المجتمع إلى العلم مسألة مركزية في حركيته نحو التنمية، حيث تحدد هذه النظرة مسار المجتمع نحو المستقبل، وإمكانية هذه المجتمعات في ترسيخ البنيات الاجتماعية والاقتصادية اللازمة لتحقيق التنمية المستدامة للمجتمع وضمان الازدهار لكافة أبنائه، وذلك من خلال ترسيخ مجموعة من القيم تقوم على التساؤل، النقد، الإبداع، والإنتاج. من جهة أخرى تشكل نظرة الإنسان إلى الوقت وكيفية تعامله معه، فلا بد من إيجاد علاقة إيجابية مع الوقت تنطلق من فهم أهميته، واعتباره ثروة طبيعية مثلها مثل بقية الثروات الطبيعية، يجب الحفاظ عليها واستثمارها بالشكل الجيد.
هذه التصورات لدينامية تطور المجتمع تشكل معايير لقياس أفق التنمية في مجتمع ما. وعند مقاربة المجتمع اللبناني إنطلاقاً منها، يمكننا تحديد مكامن التراجع على مستوى تصورات الأفراد ونظرتهم الى هذه المسائل، والتي تنعكس على وجودهم كأفراد، ومجموعات، ومشاركتهم في صياغة مستقبل لبنان.
أدى التراجع القيمي الذي أصاب المجتمع في لبنان، إلى تفشي الأوبئة الاجتماعية، والسياسية التي نعيشها اليوم، من فساد، محسوبية، زبائنية، وارتهان. لن أطيل في تفنيد هذه التصورات، ولكن لا بد من التركيز على مسألتين: الأولى، هي تميُّز المجتمع اللبناني في نظرته للعلم واهتمامه به منذ قرون، هذه النظرة التي ساهمت بإعلاء قيمة العلم، ما أدى إلى إنتاج جيوش من الكفاءات التي أصابت النجاح داخل لبنان، والكثير منه خارج لبنان. والثانية، ترتبط بالنظرة إلى الآخر، التي تحدد العلاقة بين الأفراد المختلفين، والجماعات والطوائف المختلفة. وهو ما يؤسس تلقائيا، لتركيبة مجتمعية يُفترض أن ترعى نظام العلاقات في ما بينها، وتضع الإطار العام لنظام سياسي يرعى هذه العلاقات بشكل سلمي لتحقيق المصلحة العامة للأفراد والمكونات.
إن إسقاط أي نظام سياسي على بنية مجتمعية هشّة لن يُكتب له النجاح، وهذا ينطبق على طروحات الفدرالية القائمة في هذه الفترة. الفدرالية حل لمسألة مشاركة المكونات المختلفة في السلطة، ضمن إطار جديد لإدارة التعددية اللبنانية، بما يضمن وجود المكونات المختلفة، واستقلالها ضمن وحدة الدولة اللبنانية.
إذا، الفدرالية حلّ، وليست الحل، حيث لا بد أن تنطلق أي عملية إصلاحية من بناء وعي المجتمع للمصلحة العامة، والمصالح المشتركة انطلاقاً من منظومة قيمية واضحة. الفدرالية مدخل للحل، يرافقها أو يسبقها جهد كبير لتطوير الإنسان والمجتمع.