كتب عادل عليق في الأخبار:
في السابع من الجاري، أُعلم مجلس الإدارة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بتدبير المدير العام، محمد كركي، الموجّه إلى رئيسة الأطباء تحت عنوان «ضبط الدخول غير المبرّر إلى المستشفيات»، والذي طلب بموجبه «عدم تخطي عتبة الـ200 ألف موافقة استشفائية خلال العام 2021…».
في المبدأ، يحمل هذا التدبير الكثير من المغالطات القادرة على أن تهز ما تبقّى من الأمن الصحي والاجتماعي في الوطن وتخالف قانون الصندوق وأنظمته. وفي ما يلي تفنيد لبعضها:
أولاً: في حق المضمون بالطبابة
إنَّ فلسفة الضمان وغايته تقوم على حفظ الأمن الاجتماعي لناحية عدم حرمان أي مضمون أو مستفيد من حقٍّ أعطاه إيّاه القانون وذلك بمجرَّد انتسابه للضمان واستحقاق الإشتراكات عليه. ولذلك، فإن هذا التدبير يعتبر تجاوزاً لحد السلطة بشكلٍ واضح بناء لقانون الضمان الذي ينص بشكلٍ لا لبس فيه (في البند الخامس من المادة 17 من الباب الأول – ضمان المرض والامومة) على أن «الطبيب المعالج هو الجهة الصالحة لأخذ القرار بحاجة المريض للاستشفاء من عدمه». أما المادة 21 (معدلة وفقا للمرسوم 2653 تاريخ 13/1/1972)، فتلزم الأطباء المعالجين بعدم مخالفة أنظمة الصندوق، كما تُلزم المذكرة رقم 101 الصادرة في 28 كانون الأول 2001 الطبيب المراقب احترام جميع الأطباء المعالجين والمتعاقدين مع الصندوق وعدم التدخّل في طريقة علاجهم للمرضى، و«مهمة الطبيب المراقب حصراً دراسة المعاملات من الناحية الفنية والطبية وعدم التدخل مطلقاً بالأوضاع المالية والإدارية».
ثانياً: في صلاحية الرقابة
إن صلاحية إعطاء الموافقة وعقد النفقة منوطة بالأطباء المراقبين، ومن فوقهم الرقابة الطبية، ولا يحق للمدير العام أو غيره وضع سقف لهذه السلطة، فمن يتجاوزها يرتكب مخالفة صريحة لها تبعات قانونية وطبية. وفي هذا السياق، تنص المادة الخامسة من القرار 3434 (1992) الصادر عن وزير العمل المتعلّق باستحداث مصلحة المراقبة الإدارية على المستشفيات على أن «توقيع الطبيب المراقب شرط أساسي لإجراء تصفية النفقة»، أضف إلى ذلك أن المادة 6 من المرسوم رقم 9084 (الصادر عام 1968) المتعلق بتنظيم وتسيير مصلحة المراقبة الطبية، تحمِّل الطبيب المراقب مسؤولية مخالفة النظام الداخلي في معالجة المرضى. وبالتالي، فإن تحديد رقم معيَّن لحالات الإستشفاء من دون الأخذ بمصلحة المريض أولاً يُعرِّض الطبيب المراقب لتبعات عقابية، وبناء لاقتراح اللجنة الطبية دون سواها.
ولذلك، فإن تحديد سقف الموافقات الإستشفائية للعام الحالي بـ200 ألف (وتخفيضه عن 253 ألفاً العام الماضي وما تخلله من إغلاق وحظر للتجول، و352 ألفاًَ العام 2019) يعتبر فضيحة مدوّية، إذ لم يرد أي نص في قانون الصندوق وأنظمته يعطي الصلاحية للمدير العام أو لغيره بتحديد رقم مسبق للحالات المرضية. وإضافة إلى أنّ هذا التدبير مخالف للقانون، فهو قرار غير مبني على قاعدة علمية ترتكز على الإحتياجات الصحية المتزايدة للمرضى في كل دول العالم، خصوصاً بعد «كبت» المرضى لاحتياجاتهم خلال الجائحة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن المريض المصاب بورم سرطاني يحتاج لأخذ علاجه إلى موافقات عدّة للدخول في كل مرة نصف يوم خلال الشهر الواحد، وفي بعض الأحيان 3 إلى 4 جلسات علاج شهرياً وهذه الموافقات لمريض واحد وليست لـ3 أو 4 مرضى، كما يتبادر للذهن من كتاب المدير، فعدد الموافقات يختلف جداً عن عدد المرضى!
ثالثاً: في التوقيت والسياق العام للضمان
أوحى المدير العام للرأي العام، في الكتاب الذي صدر، بأن هدفه من التدبير هو تخفيض الإنفاق، وذلك عبر رمي الكرة في ملعب الأطباء المراقبين ورئيستهم، الذين لا شك بأنهم جزء من عوامل تخفيض الإنفاق ويتحملون المسؤولية أيضاً. الا أن الدكتور كركي الذي عمّم هذا التدبير بعد خروجه من الإستجواب لساعات طويلة، ربما تغافل عن ذكر مسؤولية إدارته عن جزء كبير من تنامي الإنفاق الصحي وذلك عبر عدم تنفيذه لعددٍ من الأساليب الفعالة لترشيد الإنفاق، والتي أشارت إليها دراسات المؤسسات الدولية وقرَّرها مجلس الإدارة أو أحالها توصيات، منها:
– عدم اعتماد النظام المقطوع كأسلوب دفع عن الأعمال الجراحية أسوة بوزارة الصحة التي طبقته منذ العام ٢٠٠٠.
– عدم اقتراح أي سياسة فعالة لترشيد الدواء والتغطية على أساس الجنريك كما في أوروبا، والتي توفر المليارات سنوياً.
– عدم تنفيذ قرار مجلس الإدارة منذ العام ٢٠٠٨ والقاضي بالمناقصة على أدوية الأمراض المستعصية والسرطانية أسوة بوزارة الصحة والقوى الأمنية وتعاونية موظفي الدولة، والتي أقر المدير العام بأنها توفّر ١٥ مليار ليرة سنوياً للضمان.
– عدم تطبيق المدير العام للمكننة الشاملة التي تشمل الرقابة على الملفات الطبية ومعالجة فواتير المستشفيات إلكترونياً والقبض الإلكتروني.
– عدم ربط الصيدليات إلكترونياً بالضمان، برغم تقديم شركة برامج الصيدليات مجاناً عبر إحالة وزيرة العمل العام ٢٠٢١ والتي تم إهمالها مجدداً.
– عدم اعتماد اسس علمية لتصنيف وتسعير خدمات المستشفيات وإبقاء الأمور تسير باستنسابية فاضحة تعطي مستشفيات في الفئة الثالثة أسعار الفئة الأولى.
لقد أدى تفاقم العجز في صندوق المرض والأمومة الذي زاد تراكمياً على ٥ آلاف مليار حتى الآن الى تبخر ٣٠% من تعويضات المضمونين. وكان الدكتور كركي قد أخفى عجزاً قيمته ألف و300 مليار ليرة في قطع حساب العام 2017، إلى أن تم فضحه في تقرير أعضاء المجلس الخمسة (بهجت قاننجي، رفيق سلامة، فضل الله شريف، أنطوان واكيم، وعادل عليق) ومن قبل لجنة الشؤون المالية في المجلس.
رابعاً: في الاجراءات
من الحري برئاسة مجلس الإدارة التي وردها الكتاب إحالته فوراً إلى المستشار القانوني ودراسته تمهيداً لطلب إبطاله في حال ثبوت عدم قانونيته، وذلك من أجل إعطاء الناس حقوقها. وفي النهاية، فإن استفحال الفساد داخل الضمان والترهل الإداري والمالي والخدماتي، يجعل هذه المؤسسة الراعية للأمن الصحي والاجتماعي ضحية أمزجة ومصالح المسؤولين عن إدارة المؤسسة، ولا يردعها إلا قضاء نزيه يبت بالملفات ودولة تضع الضمان في العناية الفائقة قبل فوات الأوان.
* عضو مجلس إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، خبير في إدارة الأنظمة الصحية