كتب طارق ترشيشي في “الجمهورية”:
بين تبادل الاتهام بتعطيل التأليف الحكومي بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل من جهة والرئيس المكلف سعد الحريري من جهة ثانية، ومواقف بقية الافرقاء السياسيين الموزّعة بين هذين الفريقين تأييداً لهذا ومعارضة لذاك، تنزلق البلاد أكثر فأكثر نحو مزيد من الانهيار السياسي والاقتصادي والمالي والمعيشي، الى درجة انّ شكوى الناس لم تعد تنفع مع منظومة سياسية ليس لديها مِن هَم سوى ان تضمن وجودها في السلطة في الآتي من الاستحقاقات سنة 2022.
يرى فريق من السياسيين انّ المنظومة السياسية الحاكمة بشقّيها الموالي والمعارض او الواقف على الحياد مُنظّراً لتسويات تحضّ المعنيين على التوصل اليها نافضاً اليد من سلطة نال بفضلها ما نال من أسلاب ومغانم، قد استكملت استعدادتها لمواجهة الاستحقاقات المقبلة بما يضمن مستقبلها في الحياة السياسية، سواء شَكّل الحريري حكومته او اعتذر وذهب الجميع الى تأليف حكومة انتخابات او التعايش مع حكومة تصريف الاعمال.
ويضيف هؤلاء انّ الحراك الشعبي تدحرج سلباً منذ انتفاضة، لا ثورة، 17 تشرين 2019 من ان يتطور الى ثورة تغيّر السلطة فعلياً الى اضمحلال بفِعل نجاح المنظومة السياسية بكل تلاوينها والتقاطعات بين مصالحها في تفجير «ثورة» على «الثورة»، والأصح الثورة على الشعب الذي يعيش الحاجة والجوع، وقد حضّرت كل وسائل إخضاعه وإعادته الى «بيت الخضوع» لخياراتها ومشيئتها السياسية والانتخابية في استحقاقات 2022 تحت وطأة العَوز والحاجة، ويرجّح ان تكون «البطاقة التمويلية» احدى وسائل الاخضاع التي يُعمل على ابتكارها.
ولقد كان مؤلماً المشهد الكئيب ليوم الاضراب العام الأخير الذي دعا اليه الاتحاد العمالي العام، حيث بَدا وكأنه إضراب السلطة ضد نفسها، حيث كانت نسبة الالتزام الشعبي به في أدنى مستوى، الى درجة انّ أحزاب «البروليتاريا القديمة والجديدة» (إذا جاز التعبير) لم تشارك في هذا الاضراب، ما دلّ الى انّ الشروخ العميقة القائمة بين المنظومة السياسية المسؤولة عن انهيار البلاد المالي والاقتصادي والمعيشي وبين الناس الذين يتوعدون سراً وجهاراً بمحاسبة هذه المنظومة، بما ينتج سلطة جديدة بنتيجة استحقاقات 2022 في حال إنجازها.
ولكن ما لم يدركه الرأي العام اللبناني بعد هو انّ هذه المنظومة السياسية التي تتحمل بغالبيتها المسؤولية عمّا آلت اليه اوضاع البلاد، لن يضيرها في شيء عدم إنجاز الاستحقاقات الدستورية المقبلة من انتخابات نيابية او بلدية واختيارية او رئاسية في مواعيدها، علماً أنّ عدداً من اركان هذه المنظومة من انتماءات مختلفة وربما متناقضة، يعملون جدياً لتعطيل هذه الاستحقاقات اذا شعروا انّ نتائجها لن تأتي لمصلحتهم، وذلك لضمان بقائهم في السلطة.
وإذ تتصرف هذه المنظومة على اساس انها ذاهبة الى خوض هذه الاستحقاقات فإنها تعمل في الوقت نفسه على ان يتم إنجازها وفق شروطها، ولكنها في اللحظة التي ستشعر فيها انّ هذه الشروط لن تتوافر فإنها لن تتوانى لحظة عن الدفع في اتجاه تعطيل هذه الاستحقاقات، خصوصاً انّ بعض الافرقاء المنتمين اليها يشعرون جدياً بحجم النقمة الشعبية العارمة عليهم، وهي نقمة تستبطِن رغبة الناس في محاسبتهم فعلياً بتهمة ممارسة الفساد والسطو على المال العام والتسبّب بانهيار البلاد اقتصادياً ومالياً ومعيشياً وتدهور قيمة العملة الوطنية امام العملات الاجنبية.
ولذلك، فقد كشف الاضراب العمالي الاخير انّ المنظومة السياسية قررت «الثورة» ضد الشعب بعدما سلبته ثورته ضدها، والأصحّ انه كشف على انّ أي حراك عمّالي او مطلبي بعد اليوم لن يجدي نفعاً ولن يحقق اي نتائج عملية، طالما انّ بعض القوى السياسية الفاسدة والحاكمة تكمن فيه من ألفه الى يائه.
وتأسيساً على هذا الواقع، يقول هؤلاء السياسيون إنّ التعطيل المستمر منذ اكثر من 8 أشهر لتأليف الحكومة العتيدة ليس مستغرباً، طالما انّ إبقاء البلاد بلا حكومة تحكم بكل المواصفات الدستورية من شأنه ان يخدم هدف تأجيل الاستحقاقات المصيرية المقبلة والتمديد للمنظومة السائدة، ولذلك تطرح في الصدد علامات استفهام كثيرة حول مواقف المعرقلين للتأليف الحكومي المعنيين منهم مباشرة او مداورة بهذا الاستحقاق الحكومي.
ولذلك، حاول رئيس مجلس النواب نبيه بري ويحاول من خلال مبادرته جمع المتباعدين على أرضية مشتركة اسمها حكومة الـ 24 وزيراً الخالية من امتلاك اي طرف فيها «الثلث المعطل»، ولكن مبادرته أصيبت وما تزال بانتكاسات كثيرة الى درجة انّ رئاسة الجمهورية رفضتها في بيانها الاخير بل اعتبرت انّ صاحبها «لم يعد وسيطاً» وانه باتَ طرفاً، في اشارة الى تأييده الحريري في تأليف الحكومة، علماً انّ هذا الموقف الرئاسي الاخير أصاب «حزب الله» ايضاً لأنّ امينه العام السيّد حسن نصرالله كان قد أيّد في خطابه الاخير مبادرة بري واكد دعمه لها ودعاه الى المضي قدماً فيها، ما يدلّ الى انّ هناك ازمة صامتة في العلاقة بين عون وباسيل من جهة و»حزب الله» من جهة ثانية. وهذه الأزمة يشير اليها ما صدر عن الحزب من مواقف هذه الايام المنصرمة تؤكد عدم رغبته في التدخل في الخلاف بين بعبدا وباسيل و»بيت الوسط» وكذلك بين بعبدا وعين التينة متمسّكاً بموقفه المعلن، والذي يدعو الى تأليف الحكومة سريعاً.
بعض القريبين من الحريري يقولون انه ينتظر ما سيؤول اليه مصير مبادرة بري ليبني على الشيء مقتضاه، فإذا بلغت الخواتيم المرجوّة منها اي الاتفاق على الحكومة العتيدة بصيغة (8+8+8)، تسلك عندها البلاد الطريق نحو الانفراج السياسي الذي يؤسّس للانفراج الاقتصادي والمالي في ضوء الاصلاحات المطروحة ضمن المبادرة الفرنسية وخارجها، اما اذا فشلت فعندئذ سيكون خيار الحريري الاعتذار عن التأليف والعمل مع الآخرين على تأليف حكومة تتولى إجراء الانتخابات النيابية والبلدية في آذار 2022 المقبل، وبعدها يمضي كلّ الى حملاته الانتخابية.
وثمّة من يعتقد انه في حال عدم التوافق على حكومة انتخابات خصوصاً اذا اريد لها ان تكون مكوّنة من شخصيات مستقلة ولا يترشّح رئيسها ووزراؤها للانتخابات، فإنّ البلاد ستبقى في هذه الحال تحت سلطة حكومة تصريف الاعمال التي ينقسم الجميع في الموقف حولها ما قد يحول عندها دون إنجاز الاستحقاق النيابي ويدفع الى تمديد ولاية المجلس النيابي الحالي، وفي هذه الحال تكون «ثورة» المنظومة السياسية على الشعب الذي أراد الخلاص منها قد «انتصرت» واكتملت فصولاً ببقاء هذه المنظومة في السلطة لـ«ولاية جديدة»؟!