كتب زاهي إبراهيم في “الاخبار”:
طفلة صغيرة تصاب برصاصة طائشة في الظهر، فتسعف إلى المشفى بهدف المعالجة. خبر مؤسف، يتكرّر «دورياً»، إلا أن القصّة لم تنته هنا. الإصابة التي تعرّضت لها الطفلة تستلزم جراحة دقيقة على يد جرّاح متخصص وإمكانات طبية خاصة لا تتوفر في مستشفيات عاصمة الشمال. يتقرّر نقلها إلى أحد مستشفيات العاصمة التي اعتذرت عن عدم استقبالها لنقصٍ في المستلزمات الطبية اللازمة لمعالجة حالات كهذه. أمام هذا الواقع، لم يكن أمام الأهل المفجوعين إلا أن يناشدوا دول الجوار المساعدة في علاجها. وفعلاً، نقلت الطفلة في طائرة خاصة إلى أحد مستشفيات الأردن لتلقّي العلاج الذي عجزت عن تلبيته المستشفيات الأهم في لبنان.
لطالما تفاخر لبنان بدوره الريادي على الصعيد الطبي، إن على المستوى العربي أو حتى الإقليمي. وعماد هذا الفخر هو وجود الكادر الطبي المتميّز ذي الكفاءة العالية، ويرجع ذلك إلى أن كثيراً من الأطباء أنهوا تخصصهم العلمي في أرقى دول العالم كالولايات المتحدة وفرنسا وغيرهما من الدول المتقدمة علمياً. كما أن الطبابة في لبنان مواكبة لكل التطورات والإرشادات العلمية المنبثقة عن الجمعيات الأميركية والأوروبية، بفضل ما يكتسبه الطبيب اللبناني أثناء فترة تخصصه من خبرة وعلم وأبحاث. كل ذلك أفضى إلى طفرة علمية قلّ نظيرها في دول المنطقة والجوار. ومن الأمثلة التي يمكن أن نستذكرها، أن لبنان كان البلد الرائد في استعمال بطارية القلب، والقلب الاصطناعي في منطقة الشرق الأوسط. كما أن رعايا دول الجوار باتوا يلجأون إلى بلد الأطباء لعلاج الأمراض المستعصية، لثقتهم بالتطور الطبي فيه ونسبة إلى تصنيفه كمستشفى الشرق الأوسط. هذا اللقب بالذات خلق نوعاً جديداً من السياحة لم نعهده سابقاً، سياحة بعيدة عن مفهوم الترفيه والمطاعم والسهر، سياحة بغرض التداوي، أي السياحة الطبية التي شكّلت مصدر دخل بالعملة الصعبة للعديد من المستشفيات، وورقة رابحة لشركات الطيران والفنادق، وكان لها دور جوهريّ في تحريك عجلة الاقتصاد المتوعّك بفضل تطوّر معدّاته وكفاءة كادره الطبي الذي كان في كل الأوقات هدفاً من أهداف مستشفيات دول الخليج والجوار.
اليوم، وبعدما دخلنا حالة اللااستقرار الاقتصادي والسياسي، نرى ذاك المشفى الإقليمي يتآكل ويتهاوى شيئاً فشيئاً، وبات الخوف كل الخوف من اندثار وجوده.
وذكر حادثة الطفلة ما هو إلا لدقّ ناقوس الخطر، والتنبيه إلى درجة الاستنزاف الذي وصل إليه القطاع الطبي الذي جعله عاجزاً عن علاج حالات كان هو السبّاق فيها. فهل أصبحنا أمام واقع خسارة القطاع لهذا الدور؟ وما الذي أوصله الى هذا الدرك؟
الأسباب كثيرة وتندرج تحت عناوين تتعلق بالكادر الطبي، وأخرى تتعلق بالمستلزمات الطبية. عملياً، على أرض الواقع، وبعد الانهيار الفادح في سعر صرف الليرة مقابل الدولار، وانكماش عائدات الأطباء، انطلقت عجلة هجرة الأسماء الطبية اللامعة والممرّضين أصحاب الخبرة الطويلة إلى القارتين الأميركية والأوروبية، ونحو دول الخليج المتطلّع نحو التميّز والمتعطّش للكادر الطبي المميّز، ما أدى إلى خلخلة الهيكلية التشغيلية لمعظم مستشفيات لبنان. كما أن نقص الاعتمادات لدى مصرف لبنان، واهتزاز الجهات الضامنة، إن لم نقل انهيارها، أفضى إلى نقص في السيولة المالية اللازمة لاستيراد المعدات الطبية والأدوية. والمشكلة لم تقف عند هذا الحد، بل امتدت لتشمل المواد الأولية اللازمة لتشغيل المختبرات، وهذا ما دفع العديد من مستشفيات العاصمة إلى تبنّي سياسة تقشف تمتنع بموجبها عن إجراء الفحوصات الخارجية غير الضرورية، بغية توفيرها لمن هم أكثر حاجة داخل المستشفى، ولا سيما في أقسام العناية الفائقة.
من هنا، بتنا داخل أزمة استنزفت القطاع الطبي ودفعته نحو التخلّي عن اللقب الإقليمي الأسمى، والذي حظي به بعد سنوات عديدة من التفاني والتعب، وبات الآن شغلنا الشاغل الاكتفاء بمن وبما وجد، رافعين شعار «جود من الموجود»، أقلّه لحفظ ماء الوجه على الصعيد المحلي. والسؤال الذي يطرح نفسه متحسّراً: هل تحوّل مستشفى الشرق الأوسط إلى مستوصف متهالك لا يكاد يلبّي حاجات أبنائه؟