ليس الحال المزري الذي بلغه لبنان مستغرباً، ولا يدعو الى الدهشة ما دامت المنظومة السياسية الحاكمة على هذا المستوى من اللاوطنية والاستخفاف بالبلاد واهلها لمصلحة تأمين مطامع فئوية عنصرية هدّامة، ولو على جثث الشعب، وما دام الخيار السياسي للطبقة المتعاقبة هذه، منذ عقود طوال، لم يكن يوما صائبا او هدفه رفعة الوطن وتقدمه وتطوره على غرار الدول الطبيعية حيث القانون والدستور هما الحاكم والحكَم، والمحاسبة والعقاب مصير كل من يخرقهما او يحاول توظيفهما لمصالح شخصية، والامثلة أكثر من ان تحصى في دول، منها عربية كان لبنان في عصره الذهبي قبلة انظارها وحلم احلامها فباتت اليوم تترحم عليه.
منذ تأسيس لبنان الكبير قبل مئة عام، وفيما شهد نصفه الاول تثبيتاً لأسس ومفاهيم الدولة وسعيا لتأمين مقومات نجاحها وازدهارها، انقلبت الاحوال رأسا على عقب في النصف الثاني ودخلت البلاد التي لطالما التزمت منطق الحياد عن خلافات الجوار والعالم، ولو عُرفيا من دون نص مكتوب، في أتون صراعات المحاور والتجاذبات الاقليمية التي انهكتها وصولا الى ما وصلت اليه من حال اهتراء واندثار يتهددان وجودها وكينونتها. اعتبارا من العام 1958 ومع الصعود الناصري في المنطقة، بدأ الانخراط اللبناني في مشاريع انقسامية تجذرت في حرب الـ 1967 ضد الفلسطينيين ثم اتفاق القاهرة عام 1969 وسقوط الخيار العربي في انتخابات الـ 1968 مع النهج امام تسونامي الحلف ووصول الرئيس سليمان فرنجيه الى بعبدا في مواجهة الرئيس الياس سركيس.
المحطة هذه انتهت الى حرب اهلية مطلع السبعينات اعقبتها اخرى في العام 1982 مع وصول الرئيس بشير الجميل بعد الاجتياح الاسرائيلي، وسقوط مشروع السلام مع تل ابيب مع الرئيس امين الجميل بعد استشهاد شقيقه، لتنتهي هذه الحقبة بوصول العماد ميشال عون الى بعبدا رئيسا لحكومة انتقالية ثم توقيع اتفاق الطائف الذي لم تنجح قوى الجبهة الوطنية مع العماد عون في اسقاطه آنذاك ، وتدخل البلاد في مدار الخيار السوري حتى العام ، 2005 حينما أُخرج الجيش السوري بعد الثورة المليونية في ساحة الشهداء بفعل اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه .
سوء الخيار ادى مجددا الى اندثار مشروع قوى 14 اذار السيادي وفوز محور ايران وابتعاد لبنان تدريجياً عن محيطه العربي ، ليتلقى اعنف الصدمات التي نزلت عليه تباعا كالصاعقة وصولا الى الانهيار من خلال التبني الرئيسي لخيار المقاومة لمصلحة طهران وتحويل الدولة وشعبها ورقة في سوق المساومات الايرانية النووية. هذا الخيار المدمّر افقد لبنان عناصر قوته وارتكازه فهجره العرب بعدما امعن المحور الممانع في في القنص عليهم، وتلاشت الى حدّ الاضمحلال ثقة العالم والمجتمع الدولي به وبحكامه الذين اثبتوا قلة مسؤولية لا مثيل لها حتى في اكثر الدول هشاشة وسوءا، وها هو يمضي سريعا نحو الزوال من دون ان يرف لحكامه رمش.
ان مجموعة الخيارات السياسية الخاطئة المتراكمة منذ عقود، كما تقول مصادر سياسية لـ”المركزية” افقدت لبنان ميزته وحولته من نموذج للتعايش والعيش المشترك الى مجرد دمية تتلاعب بمصيرها دول المحور، فهل ثمة من ينقذه ويعيده الى الخريطة العالمية، علما ان الحل موجود يتمثل بالحياد الذي طرح مشروعه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي ودعمته القوى السيادية كلها، باعتباره الاسلم لانقاذ لبنان وتحويله الى دولة مستقلة بالفعل قادرة على ادارة شؤونها بنفسها بعيدا من الانقسامات والنزاعات الاقليمية، على غرار نماذج عدة في العالم؟ وماذا ينتظر القادة والحكام ليتخذوا، ولو لمرة، الخيار السياسي الصحيح الكفيل بنقل لبنان وشعبه الى حقبة جديدة تقيه الموت البطيء المشرف على خط النهاية قريبا ان لم يستفق ضمير مسؤوليه، وهو على الارجح لن يستفيق؟