Site icon IMLebanon

إستقالة قاضيين وملاحقة ثلاثة جزائياً وسبعة تأديبيًا!

كتب علي الموسوي في “اللواء”:

إذا كانت مكافحة الفساد في القضاء مطلباً شعبياً لا غنى عنه لرفع منسوب الثقة بين السلطة القضائية والمحكوم باسمه، بعد تراجع مخيف لأسباب شتّى صارت مواقع التواصل الإجتماعي وشاشات التلفزة مسرحاً يومياً للتعبير عنه والخوض فيه، عن حقّ حيناً وعن افتئات واضح وصريح أحياناً، إلّا أنّها باتت الشغل الشاغل للمعنيين في القضاء وخبزَهم اليومي، وإنْ كانوا يفضّلون استخدام العبارة الرديفة الملطّفة وهي «التنقية الذاتية»، مع أنّ المعنى واحد، والهدف واحد، والمهمّ أن تبقى الهمّة والجهود والإرادة صلبة وعالية، وأن تتمكّن مجتمعةً من التخفيف من الفساد الموجود بأوجه مختلفة، في «بيت العدالة» وصولاً إلى القضاء عليه نهائياً.

والفساد بأشكاله المفتوحة على معان شتّى، لا يقتصر على قبول رشوة مالية، أو تلقّي هدايا على شاكلة سيجار، أو سبحة، أو هاتف خليوي، أو رحلة سياحية، أو تذكرة سفر، أو نساء للمتعة الجنسية، أو تجربة الحظّ بلعبة القمار، واستغلال المركز وصرف النفوذ، و«البهورة» و«التفشيخ»، بل يتعدّاه إلى منع تنفيذ القانون بصورته الحقيقية كآية جمال وهو المؤتمن في الأصل، على إحقاق الحقّ، والتدخّل في عمل قضاة آخرين ومحاولة ممارسة ضغوط عليهم تهويلاً وترهيباً وترغيباً للتأثير في قناعتهم والحكم بهوى وميل.

كما أنّ من صور الفساد، الإخلال بواجبات الوظيفة والمناقبية القضائية من خلال إفشاء سرّية المذاكرة ومسايرة هذا على حساب صاحب الحقّ، وإصدار الحكم بعد فترة زمنية طويلة قد تمتدّ سنة وأكثر من ختام المحاكمة بإعادة فتحها من جديد بحجج واهية وغير قانونية كمن يتملّص من واجبه وقَسَمه ومسؤولياته، واستقبال وساطة أو تدخّلات سياسي أو حزبي أو سمسار أو رجال أعمال بابتسامة عريضة ورضى وتنفيعة، وإخفاء ملفّات أو إهمالها حتّى تسقط بمرور الزمن، ورفض الذهاب إلى مقرّ المحكمة المعيّن فيها بداعي أنّها في منطقة بعيدة وخارج حدود بيروت وجبل لبنان من ضمن العقلية السائدة في القضاء ووزارة العدل منذ سنوات وسنوات بالتركيز على هاتين المحافظتين واعتبار بقيّة المحافظات ملحقات لا بل وإهمالها، في عودة غير منطقية إلى ما كان سائداً قبل «لبنان الكبير».

ولا شكّ أنّ إصلاح الذات قبل أيّ شيء آخر يسهّل كثيراً مواجهة الضربات الخارجية من أيّة جهة أتت، والتصدّي لمن تسوّل له نفسُه التطاول على القضاء بما يمثّله من هيبة ومكانة في حماية المجتمع والدولة حتّى ولو أتى ممن تطلق عليهم صفة «رجال دولة» يسعون إلى مزيد من الشعبوية على حساب سمعة قضاة مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والسمعة الطيّبة.

ومن دون التنقية الذاتية الصحيحة والسليمة والمدروسة وغير الإنتقائية والمستمرّة بحيث لا تكون موسمية وإنفاذاً لرغبات عهود سياسية تسعى إلى «فشّ خلقها» بالقضاء وإظهار نفسها تغييرية، لا يمكن القتال خارج أسوار العدلية ومنع انهيار الدولة بشكل كلّي، لذلك كان القرار الحاسم والجريء بتصحيح الوضع الداخلي للقضاء قبل أيّ شيء آخر، أو بالأحرى «إصلاح مطرح ما نحنا» على حدّ تعبير مرجعية قضائية في حديث مع «محكمة».

وتضجّ الغرف المغلقة في العدلية ولا سيّما في طوابقها العليا، بهمسات ووشوشات وأحاديث عن إعادة إطلاق ورشة الإصلاح الفعلي داخل البيت القضائي بعد خفوت وخمود فرضته جائحة «كورونا» العالمية، فنشطت من جديد وفي توقيت واحد وبالتوازي، محرّكات هيئة التفتيش القضائي كمسؤولة عن التحقيق في الشكاوى الواردة إليها واتخاذ القرارات المناسبة بشأنها حفظاً أو إحالة، والنيابةِ العامة التمييزية المولجة حصراً بالملاحقة الجزائية، والمجلس التأديبي المعني بالمحاكمات السرّية وما تتضمّنه من تحقيقات وسماع صاحب العلاقة وإفادات الشهود وإصدار القرار القابل للإستئناف أمام الهيئة القضائية العليا للتأديب لكي تُتَوجّه بقرار مبرم لا يقبل أيّ طريق من طرق المراجعة ويصبح نافذاً بمجرّد إبلاغه من القاضي المعني به بالصورة الإدارية.

وفي معلومات خاصة بـ «محكمة»، فإنّ هيئة التفتيش القضائي أحالت على المجلس التأديبي للقضاة ملفّات سبعة قضاة دفعة واحدة بعدما ثبت بالوجه القانوني أنّهم يستحقّون الملاحقة التأديبية على أفعال صدرت عنهم وتندرج تحت خانة الفساد بقبول رشى والإخلال بالواجبات الوظيفية، وهم من درجات متعدّدة ويشغلون مواقع متنوّعة في غير محكمة ودائرة تحقيق ونيابة عامة وقضاء ومحافظة.

وقد لاقى رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود هذه الخطوة المتقدّمة في إنتاجية هيئة التفتيش، بالإسراع في إعادة تشكيل قضاة المجلس التأديبي للقضاة، فحلّ، بحسب معلومات «محكمة»، رئيس محكمة التمييز، الغرفة العاشرة، القاضي روكس رزق مكان القاضي المتقاعد ميشال طرزي، وأبقى عبود على العضوين السابقين المستمرّين القاضيين أيمن عويدات وغادة أبو كروم.

وإنْ كان القاضي رزق يحال على التقاعد في 12 كانون الثاني 2022، إلّا أنّ عمل المجلس التأديبي المذكور لن يتوقّف، لأنّ القاضي عبود لن يتردّد في اختيار بديل له من بين رؤساء الغرف لدى محكمة التمييز، مع الإشارة إلى أنّ رئيس مجلس القضاء الأعلى يتولّى في بدء كلّ سنة قضائية تعيين رئيس وعضوي المجلس التأديبي، ويخوّله قانون القضاء العدلي في مادته 85 تعيين بديل لأيّ واحد من هؤلاء الثلاثة عند الغياب أو التعذّر، ممّا يعني أنّ قطار المجلس التأديبي للقضاة لن يتوقّف عن متابعة النظر في ملفّات القضاة المحالين إليه مسلكياً مهما كانت المعوّقات.

كما جرى إنهاء خدمات ثمانية قضاة على مراحل زمنية مختلفة بين العامين 2020 و2021 نتيجة صدور قرارات متفاوتة العقوبات عن المجلس التأديبي والهيئة القضائية العليا للتأديب التي كانت مؤلّفة من رئيس مجلس القضاء القاضي عبود والأعضاء الأربعة القضاة سهير الحركة وروكس رزق وماهر شعيتو وإليان صابر، وانتهى عملهم في 28 أيّار 2021 بانتهاء ولايتهم كأعضاء غير حكميين في المجلس المذكور، وإلى حين صدور الدفعة الجديدة من قرارات المجلس التأديبي، تكون العقبات السياسية قد زالت من طريق تشكيل مجلس قضاء أعلى جديد ليختار القاضي عبود بنفسه أربعة أعضاء للهيئة القضائية العليا للتأديب.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ قاضياً واحداً من هؤلاء القضاة الثمانية الذين صاروا خارج السلك القضائي صدر قرار مبرم من الهيئة القضائية العليا للتأديب بحقّه وقضى بصرفه من الخدمة، فيما لم تستكمل محاكمات الثمانية الباقين أمام هذه الهيئة، إذ إنّهم تقدّموا بطلبات إنهاء خدماتهم خلال مجريات المحاكمة وصدرت تباعاً، مراسيم قبول استقالاتهم. وهم توزّعوا بحسب المراكز الأخيرة التي كانوا يشغلونها على الشكل التالي: مستشار في محكمة استئنافية في البقاع، رئيس هيئة اتهامية في جبل لبنان، رئيس محكمة جنايات في البقاع، قاضي تحقيق أوّل في البقاع، مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية الدائمة، قاض منفرد في صور، محام عام استئنافي في جبل لبنان، وقاضي تحقيق في النبطية، وهذان الأخيران قدّما استقالتيهما في شهر أيّار 2021 على التوالي وسلكت طريقها القانوني إلى التنفيذ بعدما وافق مجلس القضاء الأعلى عليها قبل انتهاء ولايته.

على أنّ هذه الإستقالة لا تعني على الإطلاق لا وقف المحاكمة أمام الهيئة القضائية العليا للتأديب، ولا وقف الملاحقة الجزائية في حال لجأت النيابة العامة التمييزية إليها إذا ما كان هناك جرم جزائي يستحقّ الإدعاء والمحاكمة، ذلك أنّه لا يوجد نصّ قانوني صريح في متن قانون القضاء العدلي (المرسوم الإشتراعي رقم 150/1983 وتعديلاته) يمنع القاضي الملاحق تأديبياً من تقديم استقالته، بخلاف ما هو معمول به في قانون تنظيم قوى الأمن الداخلي رقم 17 حيث ورد في متن المادة 62 منه حرفياً أنّه «يوقف حُكْماً تسريح الأفراد والرتباء (…) إذا كانوا محالين أمام المجلس التأديبي، وذلك حتّى صدور القرار النهائي بشأنهم وتنفيذ القرار»، وبالتالي فإنّ هذه المحاكمة التأديبية والملاحقة الجزائية تبقيان سيفاً مصلتاً على رؤوس القضاة المعنيين بها إلى أن يشاء «القضاءُ والقدر»!

وثمّة رأي قانوني كوجهة نظر أخرى، يقول بأنّ استقالة القاضي أو ما يعرف بإنهاء خدمته لبلوغ خدماته الفعلية في الملاكات الدائمة أكثر من عشرين سنة، حقٌّ مكتسب له، لا يجوز حرمانه أو منعه عنه أو المطالبة به أو القيام به.

وتوزّعت العقوبات بحقّ هؤلاء الثمانية بين عقوبة العزل وهي الأقسى والأعلى في سلّم درجات العقوبات السبع المنصوص عليها في المادة 89 من قانون القضاء العدلي، وكانت من نصيب قاض واحد ما لبث أن تمّ الادعاء جزائياً عليه.

وعقوبة الصرف من الخدمة وتأتي بعد العزل من حيث القسوة في الترتيب ونالها ثلاثة قضاة، إثنان منهما فُتحت ملفّاتهما في العام 2018 وأوقفا عن العمل فوراً، والثالث في العام 2015 ولم يجر وقفه عن العمل.

وعقوبة إنزال الدرجة بحقّ ثلاثة، بينهما إثنان ممن جرفتهما موجة الملاحقات في العام 2018 وكان ملفتاً للنظر إعلان براءتهما من جرم الرشوة، والثالث فتح ملفّه على حده.

وعقوبة تأخير الترقية ستّة شهور فقط بحقّ واحد خلع ثوب القضاء وارتدى زيّ المحاماة بموافقة مجلس نقابة المحامين في بيروت في عهد النقيب ملحم خلف الذي يقول عكس ما يفعل فتراه في وسائل الإعلام يدعو القضاء إلى إجراء «عملية تطهير» وتنقية داخلية ويستنكف عن فعلها في نقابته، لا بل يضمّ إلى الجدول العام قاضياً صدرت بحقّه عقوبة تأديبية، علماً أنّ قانون تنظيم مهنة المحاماة يتحدّث عن رفض انتساب القاضي إذا كانت ثمّة عقوبة تأديبية بحقّه ولم يحدّد درجة هذه العقوبة في سلّم العقوبات التأديبية الواردة في متن المادة 89 من قانون القضاء العدلي.

وبقي قاض واحد من جملة الملاحقين خلال العام 2018 لا يزال قيد المحاكمة أمام الهيئة القضائية العليا للتأديب، وصدرت بحقّه عقوبة اللوم عن المجلس التأديبي، وهو موقوف عن عمله في مركزه الأخير كمحام عام استئنافي في جبل لبنان.

وعلى جبهة الملاحقة الجزائية، وفي معلومات خاصة بـ «محكمة»، فإنّ عدد القضاة الملاحقين جزائياً بات ثلاثة، بينهم إثنان سبق للنائب العام التمييزي القاضي غسّان عويدات أن ادعى عليهما في شهر أيّار 2021 بجرائم «قبول رشى ومنافع ليعملا أعمالاً منافية للوظيفة القضائية، واستعمال سلطتهما ليعوّقا تطبيق القوانين، والتدخّل في عمل قضاة آخرين بصورة غير مشروعة للتأثير في القرارات القضائية. وهما قاض مستقيل بعد عقوبة عزل، وقاض عامل يشغل موقع رئيس أوّل إستئنافي في إحدى المحافظات وتفرّدت «محكمة» بنشر خبر قرار وزيرة العدل في حكومة تصريف الأعمال ماري كلود نجم بوقفه عن العمل في حزيران 2021 بناء على طلب مجلس هيئة التفتيش القضائي.

أمّا القاضي الثالث، فيواجه جرمي الرشوة وصرف النفوذ بموجب ادعاء سابق في ملفّ قديم أعيد تفعيله وإحياؤه بغية إتمامه بالقرار القضائي المناسب، وهذا ما يؤكّد أنّ الملاحقة الجزائية للقضاة ليست جديدة على الإطلاق.

وفي معلومات خاصة بـ «محكمة»، فإنّ الرئيس الأوّل لمحكمة التمييز القاضي سهيل عبود ومن ضمن صلاحياته الحصرية والمنصوص عليها في المادة 347 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، قام بتعيين القاضيين رندة حروق وحبيب رزق الله كقاضيي تحقيق لتولّي مسؤولية التحقيق مع القضاة الثلاثة المدعى عليهم جزائياً من أجل المباشرة في إجراء التحقيقات اللازمة فوراً ومن دون أيّ تأخير، وذلك تمهيداً لتبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود ووضع الأمور في نصابها القانوني السليم. وأنيطت بالقاضي حروق مهمّة الملفّ القاضيين المدعى عليهما معاً، وبالقاضي رزق الله ملفّ القاضي الثالث.

واختيار قاض للتحقيق مع زميله الملاحق جزائياً ليس اعتباطياً وليس أيّ قاض، بل يقتضي أن يكون من درجة المدعى عليه على الأقلّ، وإلّا فأعلى منه حكماً، في حال كان الجرم المسند إليه من نوع الجناية بحسب منطوق المادة 347 أ.م.ج.

كما علمت «محكمة» أنّ مجلس القضاء الأعلى وقبل انتهاء ولايته عند الساعة الثانية عشرة من ليل يوم الجمعة الواقع فيه 28 أيّار 2021، بادر ومن ضمن صلاحياته وفقاً للمادة 350 أ.م.ج.، إلى تعيين ثلاثة قضاة يشكّلون ما يعادل الهيئة الإتهامية لكي تكون على أتمّ الإستعداد لقول كلمتها في قرار القاضيين المولجين بالتحقيق رزق الله وحروق، قبل الإنتقال إلى المحاكمة أمام محكمة التمييز الجزائية.

وبحسب معلومات «محكمة»، فإنّ هذه الهيئة الإتهامية تشكّلت من القاضي ماجد مزيحم رئيساً، والقاضيين ناجي عيد وبيار فرنسيس مستشارين.

وهذا يدلّل على جدّية الملاحقة الجزائية للقضاة، وعلى أنّ النيّة متوافرة لدى المعنيين والمسؤولين في القضاء العدلي لإنجاز «التنقية الذاتية» مهما كانت الأسماء والمواقع، ومهما كانت الضغوطات من هنا وهناك لعرقلتها، لأنّ الغاية الأسمى هي تحصين القضاء برمّته وإبعاد سهام التجريح بكرامات القضاة النزيهين والشرفاء، وإعادة الثقة بين الرأي العام والقضاء الذي يبقى الملجأ الأوّل والأخير لإعطاء الحقوق لأصحابها، ولإبقاء الدولة المترهّلة والمتحلّلة على قيد التنفّس والحياة.