كتب جوني منير في “الجمهورية”:
بات واضحاً انّ احتمالات ولادة حكومة جديدة تبدو معدومة حتى إشعار آخر. فالمشكلة هي مزيج معقد من الانانية الذاتية وتشابك الخطوط الاقليمية في لحظة يجري فيها التحضير لخريطة نفوذ جديدة في الشرق الاوسط. ومعه، فإنّ الاطراف السياسية اللبنانية المعنية بالتأليف الحكومي تكتفي بخطوات إعلامية بهدف ملء الوقت الضائع والحد من خسائرها الشعبية ورمي كرة التعطيل عند الفريق الآخر، أي بمعنى آخر العمل على تقطيع الوقت والرهان على مستجدات خارجية قد تعوّض لها بعض الخسائر التي منيت بها.
في الكواليس السياسية ثمّة عبارة سحرية يجري التداول بها بخفر: لا حلول قبل ايلول المقبل.
إذاً هو رهان على موعد جديد بالنسبة الى هذه الطبقة السياسية، ما يستوجِب تقطيع الوقت والصمود الى ذلك الحين وهذا ما يفسّر حسابات «الترقيع» الجاري وضعها.
فسلفة الكهرباء تجري برمجتها على اساس تغذية لـ7 ساعات يومياً لكي تكفي حتى شهر ايلول. وأزمة البنزين يُعمل على ترتيبها من المنطلق نفسه، فالمخزون الحالي الموجود قارَبَ على الانتهاء وقريباً جداً أي خلال ايام سنفتقد للبنزين كلياً، قبل ان يعلو الصراخ ويفتح مصرف لبنان اعتمادات جديدة ولكن هذه المرة على اساس سعر الدولار كما هو محدد في المنصة. وسيكون ذلك بمثابة حل مؤقت، اي برفع جزئي للدعم ولكن بعد ان يشترط مصرف لبنان بقبوله بذلك لفترة محددة بشهرين او ثلاثة فقط، اي في انتظار ايلول.
وهذا ما سينسحب على الدواء ايضاً الذي سيخضع لبرنامج ترشيد الدعم مؤقتاً. لكن على ماذا تراهن بالضبط هذه الطبقة السياسية التي ابتُلي بها اللبنانيون؟
لا شك في ان لبنان يعاني جرّاء النزاع الكبير بين الاميركيين والايرانيين، ولا شك ايضاً ان حكام هذا البلد المتمسّكين بمصالحهم الذاتية والخاصة كأولوية مطلقة على حساب مصالح الجماعة والمصلحة العامة قد ضاعفوا من أوجاع وآلام هذا النزاع نتيجة سياساتهم الضيقة.
في فيينّا مفاوضات حول الملف النووي تحقق تقدماً واضحاً وتُنبئ بنهاية سعيدة في توقيت بات قريباً، والمسار الايجابي لهذه المفاوضات يوحي بتفاهمات حاصلة في ملحقات سرية يجري التفاهم حولها في مكان ما غير معلوم، فالتجارب التاريخية تؤكد دائماً وجود ملحقات سرية تكون هي الاساس للاتفاقات المعلنة.
لإيران مصالح ضخمة حققتها خلال العقود الماضية ما بين العراق واليمن خصوصاً، أضِف اليها سوريا ولبنان. ليس المقصود هنا انّ المفاوضات السرية قد انتجَت «يالطا» جديدة بين واشنطن وطهران حول حدود وحجم النفوذ في هذه الدول. ذلك انّ طهران رفضت ذلك ربما لاقتناعها انّ حضورها وحجمها تجاوزا اي حاجة للاعتراف بهما. لكن الملحقات السرية لا بد انها لحظت قواعد عامة تحصن الاتفاق النووي مستقبلاً، وتجعله منيعاً على اي تطورات وتحميه من خلال قواعد سياسية جديدة في المنطقة.
المهم انّ حروب «تصدير الثورة» التي نجحت ايران فيها لم تعد أفقها مفتوحة، وبالتالي قد يكون الوقت قد حان لترجمة مكاسب الميدان في السياسة. هكذا مع الحوثيين في اليمن وايضاً مع العراق الحديثة الخلفية لإيران. تبقى سوريا ولبنان، وعلى هاتين الساحتين لاعب قوي لا يمكن تجاوزه هو الدب الروسي، ولاعبون إضافيون يتحركون خلف القاطرة الاميركية والمقصود بهم الاوروبيون.
خلال القمة الاميركية ـ الروسية، والتي عقدت أخيراً في جنيف، لم تحصل تفاهمات مفصلة ولم تفتح الخريطة امام النقاش المطلوب. وهذا ما يتوافق مع الايقاع الذي تسير وفقه المفاوضات الاميركية ـ الايرانية، لذلك اكتفى الرئيسان الاميركي والروسي في جنيف بوضع الأسس الصلبة والبنية التحتية المطلوبة للتفاوض الذي سينطلق قريباً.
ذلك أنّ المسألة أبعد من ترتيب الأوضاع على ساحة غنية بالتناقضات، فالادارة الاميركية تفتش عن رسم صورة تتكامل مع نزاعها المتصاعد مع الصين وسبل إقفال ممرات الشرق الاوسط في وجهها، مع حرصها على أن لا تستفيد موسكو استراتيجياً، فهي في نهاية الامر المنافس الرقم 2 لها بعد بكين. صحيح انّ الاقتصاد الروسي صغير وهو ما يعاني جرّاء توغّله في حرب سوريا، لكنّ القوة العسكرية الروسية هي القوة المنافسة على المستوى العالمي. إلّا أنه في المقابل، فإن لموسكو مقاربة ذكية في الشرق الاوسط، اعتمدتها خلال السنوات الماضية وحققت لها فوائد ونقاطاً عدة. وتقوم هذه المقاربة على اساس مراقبة الحركة الاميركية في الشرق الاوسط وتَحيّن الفرصة بما يعني انه كلما خسر الغرب نقاطاً كلما حققت روسيا مكاسب بلا جهد كبير. أضِف الى ذلك تمسّك بوتين باستراتيجية تقوم على خفض مستوى التوتر ولكن من دون الوصول الى استقرار كامل. وهذا ما يجعل الجميع في حاجة الى خدمات الدب الروسي. روسيا تدرك جيداً أهمية الساحة السورية لها فهي أعادتها الى الخريطة العالمية بعد ان جعلت منها قاعدة نفوذ قوية. هي تتحكّم من خلال قواعدها العسكرية في جنوب تركيا او أقوى قوة عسكرية في حلف شمال الاطلسي بعد الجيش الاميركي، وبدل ان تكون روسيا تحت رحمة تركيا كما اعتادت عليه قبل الدخول الى سوريا، أصبحت تركيا نفسها وسط كمّاشة روسيا.
ومن سوريا يستطيع بوتين إبراز عضلاته عندما يشاء في اتجاه الساحلين الاوروبي والافريقي، ووفقاً للاتفاقية التي تم التفاهم عليها مع دمشق، فإنّ روسيا باقية لمدة لا تقل عن 49 سنة في سوريا.
لأجل ذلك، فإنّ فتح الملف السوري في حاجة الى مفاوضات واسعة مع إدراك موسكو لحاجة التفاهم مع واشنطن. في جنيف تم التفاهم سريعاً على أنّ عودة النازحين السوريين يجب ان تنتظر التسوية الشاملة في سوريا، خصوصاً انّ الاموال المطلوبة لعودة السوريين الى بيوتهم في حاجة الى تمويل كبير مفتاحه موجود في واشنطن.
وفي جنيف تم التوافق ايضاً على ضرورة ضمان أمن اسرائيل، وبالتالي فإنّه من المنطقي الاستنتاج أنّ لبنان حضر من خلال هذين الملفين. أضِف الى ذلك الرغبة التي كانت قد أبدتها روسيا بالمساهمة في تهدئة الساحة اللبنانية لكي لا يؤدي اي انفجار واسع فيها الى الاضرار بالمصالح الروسية في سوريا، وبالتالي فإنّ التفاهم الاميركي ـ الروسي على منع لبنان من الذهاب الى الانفجار الشامل، تُقابله ظنون بأنّ هذا الجنون الذي يغلب على سلوك أركان السلطة في لبنان ليست أسبابه فقط الانانية والمصالح الذاتية والتي تشتهر بهما الطبقة السياسية اللبنانية.
في اعتقاد هؤلاء انّ هناك دوافع اخرى اكثر ذكاءً ودهاءً من سذاجة وانانية اطراف السلطة في لبنان، هنالك من يقرأ وجود ارادة لتعديل الحصص في طريقة توزيع السلطات في لبنان، ولو أنه لا توجد بصمات وأدلّة الى ذلك.
في اختصار، تبدو موسكو موافقة على المساهمة مع الاميركيين في تأمين معادلة تُظلّل الساحة اللبنانية وتسمح لاحقاً للاوروبيين بالعمل على التفاصيل واحتواء الانهيار المتسارع، وإعادة بناء نظام اقتصادي جديد وفق ذهنية سياسية مختلفة، على ان يؤمّن ذلك مصالحها في سوريا ولم لا في الشاطئ اللبناني حيث قطاع الغاز.
من هنا الرهان الموجود على تقطيع الوقت بحيث تشهد أشهر الصيف تركيب المعادلات المطلوبة حول لبنان لحماية المشاريع المطروحة حول سوريا.
لكن السؤال هو حول قدرة اللبنانيين على الصمود اكثر، خصوصاً انّ سياسة «الترقيع» المتّبعة لا تبدو فعّالة او مضمونة. والأهم تلك الحقيقة التي نعيشها كل يوم حول طبقة سياسية لا تأبه سوى لمصالحها فقط وركيزتها السلطة والمال.