لبنان «يحترق»، و«نارُ» الانهيارِ تتمدّد يومياً لـ «تلتهم» آخِر خيوطٍ في «الحبل» الذي ما زالت «بلاد الأرز» تتعلّق به في قلب «فوهة جهنّم»، فيما تَمادي الأزمة الحكومية بكل صواعقها السياسية والدستورية والطائفية، الداخلية والاقليمية، يصبّ الزيتَ فوق البركان الاجتماعي الذي بدأ… انفجاره.
هذه المشهدية التي توصف الوضع اللبناني، لا تشكّل إلا جزءاً من واقع الحال في بلدٍ ارتفعت معه في الساعات الماضية «حماوة» الأرض على شكل قطع طرق في مناطق واسعة (بيروت وتحت جسر المطار في الضاحية الجنوبية وأوتوستراد العاصمة – الشمال وفي صيدا وصور والشمال وبعض الجبل) واستهداف مبنى وزارة الطاقة، بقنبلة مولوتوف في ما بدا «تحميةً» لتحركاتٍ يُخشى أن تخرج عن السيطرة، «وقودُها» متوافر بكثرة على عكس المحروقات «المفقودة» والتي يوشك شحّها وقرب نفاذها بأن يصيب (إلى جانب كل الدورة الاقتصادية) قطاعاتٍ عدة، تترنّح أصلاً مثل المستشفيات، والوزارات والإدارات العامة والسوبرماركت وصولاً إلى آخِر نور ينعم به اللبنانيون في بيوتاتهم.
وفي حين سجّل سعر صرف الدولار في السوق الموازية رقماً قياسياً هو 16 ألف ليرة، كانت تترسّخ ظاهرة «روبن هود» على الطريقة اللبنانية مع اتساع رقعة «وضع اليد» من مواطنين على مواد استراتيجية وغذائية خلال عبورها في بلداتهم خصوصاً في عكار التي شهدت أمس استيلاء شبان على شاحنة نقل صغيرة كانت محمّلة بالحليب عند مفترق بلدة ديردلوم على طريق عام العبدة- حلبا قبل أن يعمدوا إلى توزيع حمولتها على بعضهم البعض وعلى مَن حَضَر من الأهالي، وذلك غداة مصادرة (في البقعة عيْنها) صهريج بنزين وتَقاسُم حمولته.
وفي ظل هذا الواقع الصادم، بدت محاولاتُ «شراء الوقت» لتأخير الارتطام الكبير تصطدم بدورها بتعقيدات تعكس خطورة المنعطف الذي بلغه لبنان و«تردُّد» بعض المعنيين تحت وطأة الوهج الهائل لـ «كرة النار».
ففيما كان رئيس الجمهورية ميشال عون يترأس اجتماعاً ضم وزيري المال في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني وريمون غجر، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، خصص لعرض وضع المحروقات وانعكاساته وسط إعلان مكتب الإعلام في الرئاسة اللبنانية أنه تقَرَّر بعد اتصال أجراه عون برئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب «اتخاذ إجراءات عملية استثنائية لتمكين مصرف لبنان من القيام بالترتيبات اللازمة للحد من تمدُّد الأزمة بانتظار التشريعات التي يجري درسها في مجلس النواب» (إقرار البطاقة التمويلية)، فإن البيان الذي صدر عن «المركزي» وفيه إصرار على أن تقرّ الحكومة «الإطار القانوني المناسب الذي يسمح للمركزي باستعمال السيولة المتوافرة في التوظيفات الإلزامية (الاحتياطي) مع التزام الحكومة بإعادة أي أموال مقترضة (…)»، عكس مسألتين:
الأولى حساسية تمديدِ دعم استيراد المحروقات ولو على منصة 3900 ليرة للدولار (عوض 1500 حالياً) من دون غطاء قانوني على غرار ما توافر لملف الفيول.
والثانية، أن المخرج الذي اتُفق عليه في اجتماع بعبدا لم يُترجم سريعاً بدليل ما تردّد بداية عن «استياءٍ رئاسي من امتناعِ دياب عن التوقيع على (الإقراض) من مصرف لبنان (سنداً للمادة 91 من قانون النقد والتسليف) لحلّ أزمة المحروقات وتحميله مسؤولية ما سيجري في الشارع، وهو ما تم نفيه لاحقاً مع تأكيد قصر بعبدا أن التعاون قائم بين الرئيسين على كل ما يحقق مصلحة لبنان واللبنانيين لاسيما في الظروف الصعبة التي تمرّ بها البلاد».
وتَرافَقَ ذلك مع تحذيرِ مصادر معنية بالملف (عبر«وكالة الأنباء المركزية»)، من تداعيات عدم توقيع دياب الموافقة الاستثنائية، موضحة«أن عون بذل كل الممكن من أجل إرساء حل يبعد شبح الانفجار عن الشارع في ما لو لم تحلّ أزمة المحروقات التي تطول شظاياها كل القطاعات الحيوية من المياه الى المستشفيات والمواصلات.
وقد درس المجتمعون كل الخيارات وبعد نقاش على مدى أكثر من ساعة ونصف الساعة رسا الخيار على الموافقة الاستثنائية واتصل عون بدياب مرتين متتاليتين ووضعه في طبيعة ما اتُفق عليه»، مشيرة الى«تعويل على إيجابية دياب بتوقيع الموافقة الاستثنائية بما يسمح بحلّ متوسّط المدى لأزمة المحروقات».
وفي مؤشر إلى أن هذه الأزمة «أعمق» من أن يحلّها رفع تسعيرة البنزين ليصبح مدعوماً بدولار 3900 ليرة لأن هذا الأمر لا يعالج «أصل» مشكلة تمويل الاستيراد من بقايا الاحتياطي الإلزامي بالعملات الأجنبية لدى«المركزي»والذي سيبقى مصرف لبنان يديره بـ«تقنين» كبير، أكد عضو نقابة أصحاب المحطات جورج البركس في معرض دعوته عون «لاتخاذ كل القرارات المتوجبة والمستعجلة والتي تؤمن استيراد البنزين والمازوت»، أنه «مهما كانت هذه القرارات، على سعر صرف 3900 ليرة أو أكثر في ظل بقاء سياسة الدعم على ما هي، يجب ضبط مسألتين أساسيتين لنجاحها وهما: تأمين فتح الاعتمادات لاستيراد المحروقات بكميات تكفي حاجة الأسواق بصورة متواصلة، والتأكد من وصول مادة البنزين المسلَّمة للسوق المحلية بكاملها الى كل المحطات».
وعلى خط متصل، مضت نقابة المستشفيات بالتحذير من أنه «لا يوجد بصيص أمل في حل المشكلات التي يعانيها القطاع الاستشفائي»، موضحة أنه «بات متعذراً على المستشفيات استقبال المرضى على عاتق الجهات الضامنة الرسمية والخاصة دون تحميل المريض فروقات بأسعار المستلزمات الطبية والفحوص المخبرية والشعاعية»، ولافتة إلى «الشحّ في المواد المظللة التي تستعمل في عمليات تمييل شرايين القلب وبعض الصور الشعاعية، كذلك الشحّ في مادة المازوت الذي يهدد المستشفيات بالإقفال».
وفي موازاة ذلك، كانت البطاقة التمويلية التي يُراد لها أن تشكّل «واقي صدمات» ما بعد رفْع الدعم شبه الكامل بمختلف نواحيه تشقّ طريقها الذي ما زال شائكاً انطلاقاً من اللجان النيابية المشتركة التي أقرتها لتستفيد منها نحو نصف مليون عائلة (حدها الأقصى 137 دولاراً شهرياً) على أن تقدّم الحكومة الأسبوع المقبل مشروع قانون معجلاً لمجلس النواب حيث سيتطلب بتّها النهائي في البرلمان (بعد تحديد مصادر التمويل وكيفيته) ثم بدء الاستفادة منها أسابيع عدة يخشى كثيرون أن يسْبقها «تسونامي الأزمات» خصوصاً في ضوء الأفق الحكومي المقفل.
وفي حين أعلن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط في ما خص البطاقة التمويلية «أن ما يناقشه النواب هو بطاقة انتخابية دون معرفة مصادر التمويل»، معتبراً «ان أحد أسباب رفض التسوية (الحكومية) ولهجة المزايدات الحالية من كل مكان هو أن الفرقاء الكبار يفكرون بالانتخابات للعودة الى الاسطوانة نفسها في التأليف والتشكيل»، يسود ترقُّب لإطلالة الأمين العام لـ«حزب الله»السيد حسن نصرالله عصر اليوم حيث سيحصر كلامه في التطورات المحلية السياسية.
وتكتسب مواقف نصرالله أهميتها لأنها الأولى بعد التطورات الأخيرة في الملف الحكومي ولا سيما كلام رئيس«التيار الوطني الحر»جبران باسيل الذي فوّض (الأحد) نصرالله شخصياً بـ«تحصيل حقوق المسيحيين» في الحكومة العتيدة ساحباً في الوقت نفسه «التكليف» الذي كان منحه الأخير لشريكه في الثنائية الشيعية رئيس البرلمان نبيه بري لاجتراح مخرج للأزمة وفق مبادرته (حكومة الـ 24 وزيراً من اختصاصيين غير حزبيين وفق توزيعة ثلاث ثمانيات) التي يشكّل الرئيس المكلف سعد الحريري حجر زاوية فيها، وهو ما استوجب تحركاً من الحزب في اتجاه باسيل في الساعات الماضية تحت سقف أن بري«خط أحمر»وأنه لا يمكن التفريط بالتحالف مع باسيل الذي سلّف«حزب الله» نقاطاً ثمينة، وتالياً فإن الأمين العام للحزب لن يختار بينهما.