كتب د. هيكل الراعي في “الجمهورية”:
بعد حوالى 20 شهراً على انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، وبعد انفجار مجموعة من الأزمات السياسية والمعيشية، استفاق الاتحاد العمالي العام من سباته العميق ودعا إلى إضراب احتجاجاً على سوء الأوضاع المعيشية التي يعاني منها اللبنانيون، وخصوصاً العمال وذوي الدخل المحدود. لماذا انهارت الحركة النقابية اللبنانية وتراجع دورها؟ وهل من إمكانية كي تستعيد النقابات العمالية الدور المشرق الذي لعبته خلال تاريخها؟
تتفق التعريفات المختلفة التي صاغها الباحثون في الشأن النقابي على أنّ النقابة، هي مؤسسة تجمع أفراداً، يعيشون ظروف عمل اقتصادية – اجتماعية متشابهة، بهدف الدفاع عن مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وقد استُعمل مفهوم النقابة بشكل غير دقيق في لبنان، حيث يخلط البعض بين النقابات والهيئات المهنية (محامون، مهندسون، أطباء، صيادلة، خبراء محاسبة…).
شرذمة وضعف عدد المنتسبين
ومن خلال قراءة دقيقة للواقع النقابي في لبنان، يمكن القول إنّ 4 ظواهر ميّزت العمل النقابي، وهي: الشرذمة، ضعف عدد المنتسبين، ضعف الممارسة الديمقراطية، والاحتواء السياسي:
1 – الشرذمة النقابية:
ساهمت عوامل عدة في شرذمة الحركة النقابية نوجز أبرزها:
أ- العامل القانوني:
السياسي: إنّ الإطار القانوني لتكوين وعمل النقابات في لبنان هو قانون العمل اللبناني الصادر في 23 أيلول 1946 والمرسوم رقم 7993 تاريخ 3 نيسان 1952. وقد أعطى هذان النصّان التشريعيان وزير العمل، الحق بمنح ترخيص مسبق لإنشاء النقابة، بعد استطلاع رأي وزارة الداخلية. ولا تصبح النقابة شرعية إلّا بعد نشر القرار في الجريدة الرسمية. وقد أيّد المشرّع، لأسباب عدة، بعضها سياسي، التعددية النقابية، عندما سمح بإنشاء نقابات عدة في المهنة الواحدة.
لقد تجاهل المشرّع اللبناني الاتفاقات الدولية الصادرة عن منظمة العمل الدولية، والتي ترعى عمل النقابات. فهذه الاتفاقيات نصّت صراحةً على حق العمال وأصحاب العمل بإنشاء النقابات والانتساب إليها من دون ترخيص مسبق، وباستقلال عن أي تدخّل حكومي .
وتشير بعض الإحصاءات، إلى أنّ عدداً محدّداً من النقابات يحتكر الأغلبية الساحقة من العمال النقابيين. بينما تكاد بعض النقابات تكون وهمية. وهذا يؤكّد الدور السلبي الذي لعبته السلطة، عبر وزارة العمل، في شرذمة وتفتيت الحركة النقابية.
إضافة إلى دور السلطة، فأنّ الخلافات الشخصية والتنافس على الزعامة النقابية، وسعي بعض القيادات النقابية إلى استنساخ اتحادات جديدة من اتحاداتها القائمة، حرصاً منها على تأمين أكثرية انتخابية مريحة في الجولات الانتخابية، وكذلك سعي الأحزاب السياسية لتكوين اتحادات نقابية تابعة لها، ساهمت في تفتيت وشرذمة الحركة النقابية.
ب- العامل المالي:
إن نشاط واستمرارية واستقلالية النقابة أو الاتحاد، لا يمكن أن يتأمَّن إذا لم تتوفر الموارد المالية. وفي المبدأ، يجب أن تشكّل اشتراكات الأعضاء المصدر الرئيسي لتغذية نشاطات النقابة.
في الواقع، إنّ الغالبية الساحقة من أعضاء النقابات لا تدفع اشتراكاتها بشكل منتظم. والأموال التي تحتاجها النقابات للقيام بنشاطاتها، كانت تأتي من المساعدات التي تقدّمها الدولة عبر وزارة العمل، إضافة إلى مساعدات أخرى بعضها من الخارج.
وإذا سلَّمنا جدلاً بحق الحكومة في مساعدة الاتحاد العمالي العام والنقابات من أموال المكلّف اللبناني، فإنّ ذلك لا يمكن أن يلغي السؤال: من أين تأتي أموال النقابات؟ بعض سيئي النية يتهمون أرباب العمل والسفارات الأجنبية وحتى بعض أجهزة المخابرات الأجنبية، بمساعدة نقابات معينة. غير أنّ نفي هذا الاتهام لا يمكن أن يدفع الى تجاوز السؤال حول الواقع المالي للنقابات والاتحادات النقابية.
2 – ضعف عدد المنتسبين
إنّ المشكلة الرئيسية التي تواجه الباحث في الشؤون النقابية أو في أي موضوع آخر في لبنان، هي فقدان أو عدم توفر الإحصاءات. ويعتبر بعض المسؤولين في إدارات الدولة الإحصاءات، بمثابة أسرار يحتاج البوح بها إلى سلسلة من الإجراءات المعقّدة. وحتى إذا توصل الباحث، بعد جهد جهيد، إلى الحصول على بعض هذه الإحصاءات، فإنَّ الشك في صحتها وفي دقتها يبقى العنصر الأساس، نظراً لغياب الموضوعية والأمانة، أغلب الأحيان، في جمع المعلومات.
إنّ انخفاض المعدل العام للانتساب النقابي في لبنان يُضعف الصفة التمثيلية للنقابات والاتحادات ويهمّش دورها. ذلك لأنّ العامل اللبناني لا يزال فردياً حريصاً على استقلاليته، يأنس إلى عائلته وطائفته أكثر مما يأنس إلى الجماعة المهنية التي ينتمي إليها. كما إنّ كثيرين من العمال مقتنعون بأنّ ما يمكن أن تحققه النقابة من مكاسب سينتفعون بها، سواء انتسبوا إلى النقابة أم لم ينتسبوا.
3 – ضعف الممارسة الديمقراطية
على صعيد التنظيم الداخلي، يمكن القول إنّ النقابة هي مؤسسة يرتبط تطورها وقوة أدائها بحسن إدارتها وبالممارسة الديمقراطية في صفوفها. ويمكن أن يلعب القادة النقابيون، إذا ما تمّ تدربيهم وإعدادهم بشكل جيد، دوراً أساسياً في تطوير المؤسسات النقابية. والسؤال الذي يُطرح هو: من يدير النقابات في لبنان؟ أو بالأحرى، من هم القادة النقابيون في لبنان؟
مع الأسف، يشير بعض الباحثين في الشؤون النقابية إلى الرصيد السلبي لأغلب القادة النقابيين. فبعضهم لا يملك المؤهّلات الكافية، والبعض الآخر لديه تاريخٌ حافل بالاستزلام والارتهان أو بالتطاول على الأموال العامة. هناك نقابات كثيرة يقودها ظاهرياً مستخدمون أو عمال، غير أنّها في الواقع تنفّذ قرارات أصحاب العمل. وباستثناء حالات نادرة، لا يوجد في لبنان نقابيون متفرغون يتقاضون رواتبهم من نقاباتهم أو اتحاداتهم.
4 – الاحتواء السياسي
تسعى الأحزاب السياسية، إلى احتلال مواقع لها داخل التنظيمات النقابية، وغالباً ما تُنشئ أجهزة خاصة لتحقيق هذه الغاية. وبعض القادة الحزبيين يتولون مراكز قيادية في بعض النقابات. والعلاقة بين النقابات والأحزاب السياسية من الظواهر الطبيعية في المجتمعات الليبرالية. غير أنّه في إطار التركيبة السياسية الاجتماعية الطائفية اللبنانية، تتحول النقابات في بعض الأحيان، إلى أدوات لخدمة الأحزاب بدل الاستقواء بالأحزاب لتأمين الدعم لمطالب العمال.
هكذا رأينا بعد الحرب الأهلية طغيان الألوان الطائفية على الاتحادات والنقابات العمالية، وتراجع اليسار النقابي ذي الوجه العلماني. ويبدو أنّ بعض القوى الطائفية خطّطت واستطاعت الإمساك والسيطرة على الحركة النقابية والاتحاد العمالي العام.
أخيراً، يمكن القول إنّه في نشأتها وتنظيمها، في أفكارها وشعاراتها؛ في نشاطها ونضالاتها؛ حملت الحركة النقابية سمات وخصائص المجتمع اللبناني. هي تأثّرت بتطور الاقتصاد اللبناني باتجاه سيطرة قطاع الخدمات، وحملت بصمات البنية الاجتماعية الطائفية العشائرية العائلية المناطقية، وخضعت لأهداف ومصالح وارتباطات القوى السياسية المختلفة. لم تستطع الحركة النقابية اللبنانية تجاوز سلبيات الواقع، ولا أحدثت تغييراً عميقاً فيه، وإن كانت حاولت مراراً، عبر بعض قواها وتنظيماتها. وهي في محاولاتها تركت أثراً، وسمحت بتحقيق مكاسب كثيرة لعمال لبنان. ورغم أنّ بعض المتشائمين يتحدثون عن فشل التجربة النقابية في لبنان، وعن سقوطها، فإنّ الواقع النقابي، رغم سلبياته الكثيرة، لا يزال يختزن طاقات حيّة قادرة على الفعل، وعلى إحداث التغيير، وعلى اختراق البنى التقليدية.