كتب أحمد الأيوبي في “اللواء”:
عندما بدأتُ جمع مادة هذا التقرير استذكرتُ مشهد الفنان الراحل حسن حسني ومحمد هنيدي في فيلم «يا أنا يا خالتي»، يجلسان في أحد المطاعم، بعد جهدٍ لتأمين الحجز، ويبدآن تناول اللحم وتبدأ رحلة التعبير عن التلذّذ بطعمه، «فطعم اللحم هنا غير أي مكان تاني»، وتتواصل الإشادة بكرم المطعم، حتى عند دخول الشرطة المكان، فتناهى إلى «تيمور» وأبيه، أنّ عناصرها من الزبائن المرموقين، لينتهي المشهد بالقبض على صاحب المطعم وإخراجه على الملأ مع الحمير التي كان يذبحها ويطعمها للناس، ونشاهد المضحك المبكي من ردّات فعل هنيدي وحسني على تناول لحم الحمير!!
اللحم الرخيص… مدخل الاشتباه
مع توغلنا في جهنم العهد العوني، يبدو أنّ على اللبنانيين الاعتياد على مزيد من المفاجآت السوداء، وخاصة على الصعيد المعيشي والاجتماعي، والحديث هنا عن تسرّب لحم الحمير إلى الأسواق اللبنانية، التي شهدت تدفـّق كميّات من اللحوم الرخيصة الثمن ليصل سعر الكيلوغرام الواحد إلى أربعين ألف ليرة على أساس أنّها من لحم العجل البقري «الطازج»، وذلك وسط الفوضى العارمة التي تجتاح الأسواق وسيطرة «سوق سوداء» يحاول من خلالها كثير من تجار اللحوم وأصحاب الملاحم الحصول على «اللحم المدعوم» من الدولة، والتوسع نحو السعر الأدنى لتوفير أعلى الأرباح، من دون الالتزام بالمعايير الصحية، وهذا ما سمح لمافيات التهريب بفتح سوق جديد في لبنان هو سوق بيع لحم الحمير.
سعر الأربعين ألفاً طرح علامات استفهام كبيرة حول طبيعة ونوعية هذه اللحوم التي تصل إلى اللبنانيين بهذا السعر المتدني في هذه الأزمة الخانقة. وفي نظرة إلى الأرقام، يتضح الآتي: يُباع الخروف في بازار المواشي «واقفاً» بين 33 ألفاً و35 ألفاً للكيلوغرام الواحد، بمعنى أن الخروف الذي يزن 50 كيلوغراماً لا يبقى منه، بعد نزع عظامه وأقدامه وجلده، إلا 21 كيلوغراماً، وبالتالي يقف الكيلوغرام الواحد على التاجر بثمانين ألفاً. أما بالنسبة الى العجل الذي يزن 400 كيلوغرام، فسعر الكيلو منه «واقفاً» بعشرين ألفاً، يعني 400 ضرب 20 يساوي ثمانية ملايين ليرة. وفي كل مئة كيلوغرام يحصل اللحام على 40 الى 45 كيلوغراماً من اللحوم تقريباً يعني من أصل 400 كيلو يبقى للحّام 160 كيلو من اللحم تقريباً، ويفترض أن يبيع الكيلو الواحد بسعر لا يقل عن 49 الى 50 ألفاً كي يسترد الرأسمال. فكيف يظهر في السوق من يبيع «اللحم الطازج» بأربعين ألفاً؟
من هنا بدأ البحث عن مصدر اللحوم الرخيصة، فظهرت معطيات تشير إلى أنّ أحد المصادر هي المواشي المريضة أو النافقة حديثاً، ولكنّ لحم الحمير ظهر كمصدرٍ ناشط أيضاً من خلال انكشاف معلومات متكاملة حول دخوله السوق اللبناني.
حمير تركيا.. رأس السلسة
يبدأ رأس السلسلة من تركيا، حيث تنتشر الأخبار عن «تقاعد» الحمير من الخدمة بعد سنوات من استخدامها من قبل البلديات في أعمال جمع النفايات في الأزقة والحارات التي لا تستطيع سيارات البلدية الوصول إليها، وفي أعمال أخرى، حيث تقيم البلديات حفل تقاعد لتلك الحمير وتعفيها من العمل وتؤمّن لها الرعاية، وفي الأرياف يجري إطلاقها في البرية، حيث تتوافر المراعي.
لفت هذا الأمر نظر شبكات التهريب السورية الناشطة على الأراضي التركية، فبات عناصرها يرصدون الحمير المتقاعدة ويستولون عليها ويقومون بتهريبها عبر الحدود إلى الداخل السوري، ومنه إلى الحدود اللبنانية، حيث تعمل سيارات خاصة بهذه المافيا على إدخال لحوم الحمير إلى السوق اللبناني.
كشف هذه المعلومات أحد مشايخ العشائر السورية الذي يقوم بزيارة إلى لبنان، وقد تحدث إلى «اللواء» كشاهد عيان على ما يجري في الجانب السوري، وهو على دراية بأعمال شبكة التهريب إلى لبنان، فيوضح أنّ مافيا لحوم الحمير لا تعتمد فقط على تهريب «الحمير المتقاعدة» في تركيا، فهي تشتري أيضاً ما يتوافر منها في الداخل السوري، بل إنّها توظف أشخاصاً لسرقة الحمير المحلية لتسوقها للذبح مع زميلاتها التركية، وبات هذا الأمر شائعاً في العديد من المناطق السورية.
تُشكِّل لحوم الحمير تجارة مربحة، فمافيا التهريب تشتري الحمار من السوق السورية بما يوازي الخمسين دولارا أميركيا كحدٍ أقصى، فضلاً عما يتوفر من حمير مسروقة، وهي بذلك تجني الأرباح الطائلة بسبب الارتفاع الجنوني للأسعار في لبنان، وقد يصل الربح بالحمار الواحد إلى خمسة عشر مليون ليرة، حسب وزن كل حمار، حتى أنّ المصدر اعتبر هذا التهريب مربحاً مثل تهريب المخدِّرات، فهو يكاد يكون بلا كلفة للمواد الأساسية، ويعتمد على مصدر توريد شبه مجاني. يبلغ المردود اليومي لكلّ فرد من أفراد هذه الشبكة ما لا يقلّ عن 700 دولار أميركي وهو مبلغ خيالي بالاستناد إلى وضع العملة السورية، وهو مردود متواصل، فالحمير في تركيا متوافرة بأعداد كبيرة وعمليات تهريبها متواصلة وهي تشكِّل مورداً مستديماً لهذه العصابات.