كتبت ريتا بولس شهوان في “نداء الوطن”:
حجزت البترون دوراً لها في عزّ الأزمة الاقتصادية بتفعيل خصوصيتها المكانية ووظّفتها في شبكة الاقتصاد العام للجذب السياحيّ في ظلّ هيمنة النظام اللّبنانيّ الشديد المركزيّة مع غياب توجيه المناطق. فتاريخياً اختصّت المدن بمواضيع الإنتاج لكونها حالةً تاريخيَّةً ارتبطت بمصادر الحياة، أمّا البترون التي تمتلك قدرة على تقديم الخدمات السياحية على الساحل اللبناني فتستند إلى طبيعة المحيط المتميّزة، فخلفها الجبل وتحوي آثاراً تاريخية عريقة، وتفتح مجالات واسعة لوظائف في قطاع السياحة والترفيه، ولكن مع ذلك ما زال كلُّ ثقل الاقتصاد اللّبنانيّ متمركزاً في العاصمة بيروت.
استناد المنطقة إلى تقاليدها المحلّية، وإلى تسويق المطبخ اللبناني، وتحفيز الرأسمال البشري والطبيعي الذي يشكّل أساساً حقيقياً للتنمية كلّها عوامل سمحت لها برفع أسهمها الاقتصاديّة بعد انفجار بيروت. فالناس يبحثون عن الخروج من جوّ الانفجار حتّى مع انقسام اللبنانيين انقساماً بيّناً بين من هو قادر على صرف ماله في المقاهي والمطاعم ومن ليست لديه هذه الرفاهية ولو في حدودها الدّنيا. ومع ذلك ثمّة من انتقل الى الاستثمار في البترون ليصبح جزءاً من أهلها؛ إذ تشهد هذه المدينة حركة كثيفة لظاهرة “بيوت الاستضافة” التي بدأت تظهر منذ ثلاث سنوات، وتتمثّل فكرتها في تأهيل بعض العائلات إحدى الغرف في المنزل من أجل تأجيرها للسّياح. ومع بداية هذا الموسم الصيفيّ أصبحت موضة شائعة في البترون، فهذا ماثيو بيبان الذي يدير “بيت بيبان” للاستضافة، والذي يؤهّل غرفاً منزليّة بهدف الإيجار ينظر إلى هذه الظّاهرة بوصفها فرصة جيّدة للعمل، ولا سيّما أنّ ظاهرة بدأ يبحث عنها السّياح على بعض المنصّات العالمية.
وقد أنعشت هذه البيوت أحوال بعض العائلات خصوصاً أن هذه الخطوة لا تتطلّب أيّ إذن من أي وزارة أو بلدية، وتبدأ الأسعار فيها من 20 دولاراً إلى الألف. وأوّل البيوت للاستضافة في البترون هو نزل سعدى الذي يحوي فندقاً وبيت استضافة وحانة تستقطب الأجانب وحركة الروّاد الهاربين من بيروت ومن جوّها السّلبي بفعل الانفجار مختارين البترون؛ ولذلك لا عجب أن نجد هذه البيوت محجوزة بالكامل في نهاية الأسبوع! فتخبرنا مديرة منزل الضيوف “فيلا باراديزو” “ريتا فغالي” كيف أنَّ السياحة الداخلية ووتيرة الحجوزات تسارعت بسبب عدم القدرة على السفر إلى خارج لبنان ولا سيّما للذين اعتادوا السفر، فهؤلاء التجأوا إلى بديلٍ بمواصفاتٍ عالميّةٍ، بديلٍ تُمثّله هذه المنازل المعدَّة للضيوف مفضّلين منطقة البترون على سواها بسبب أنَّ عدد الإصابات فيها قليل مقارنة بغيرها من المناطق اللّبنانيّة.
هذه الحركة التي يصفها أهالي المنطقة بالـ”نار” إنّما هي وليدة جهدٍ وتوأمة بين لجنة مهرجانات البترون التي ستبدأ قريباً، وفق العضو في اللجنة سيمون بيبان، ولجنة التجّار والبلدية، ولا سيّما أنَّ هذه الحركة أتت بعد أن فرملت جائحة كورونا الحركة السياحية؛ إذ يخبر عضو البلدية “إسطفان جمّال” “نداء الوطن” كيف تحوّلت المدينة إلى جزيرة للسعادة على حد تعبيره، فإلى جانب اهتمام البلدية بالنفايات وفرزها، وتكرير الصرف الصحّي للمحافظة على البحر واستثماره في السياحة، هناك خطوات سبقت هذه المرحلة بدأت منذ 20 عاماً، تضاف إليها جهود رئيس البلدية مارسيلينو الحرك والمجلس البلدي الذي أدار أزمة كورونا، وواكب المرحلة التي سبقت فكّ الحجر والتي التزمتها البلدية، فجرى التعاون مع الدليل السياحي “جان بشارة” الذي يتكلّم لغات متعددة ليعرّف الناس إلى المنطقة ومواقعها السياحية من خلال شرائط مصوّرة تُنشَر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إذ سُوّق للبترون وأُعلِن عن التحضير لهذه الحركة الرّائدة. وقد ربطت البلدية بين عدد الإصابات واستقدام موجة السياحة إلى المنطقة، فعملت على التقليل من أعداد الإصابات، وعملت على شراء أجهزة تنفّس من خلال جمع تبرعات من المقتدرين، وعلى إعداد مركزٍ للتلقيح وتشديد الإجراءات. وبذلك نجحت المنطقة في تخطي هذه المرحلة الحرجة بنجاحٍ لافتٍ.
والتخطيط لنهضة المدينة مع انطفاء الملاهي الليلية في المنطقة، نتيجة قرار وزارة الصحّة، ساهم بتأهيل السوق العتيق المهجور منذ أكثر من 30 عاماً وبتحفيز المستثمرين على فتح مطاعم ومقاهٍ وحانات لاستقطاب الروّاد، فجرى نسج شبكة ترفيهية توظّف أبناء البترون لتتوسّع الى مختلف المناطق. وتتجلّى التسهيلات التي تقدّمها البلدية على حدّ تعبير “جمّال” في عدم تأزيم الحصول على الرخص بالتعاون مع مديرية الآثار، وإن لم يُتَخَلَّ عن تحصيل مبالغ بدل إشغال الأملاك العامة بهدف تنظيمي لترك مساحة للمشاة للتنقّل في الشارع.
وإنّ استخدام البطاقة الائتمانية في المطاعم والحانات هو إحدى المميّزات في البترون لتشجيع الروّاد على السياحة، فبذلك تتحرّر القدرة الشرائية لدى من يملكون رصيداً في المصرف، وهو ما يساهم أيضاً في رفع سقف السياحة الداخلية. يخبر “شربل فاعور” وهو مالك حانة ومطعم أنَّ استثماره كان مخاطرة، ولكن مع القدرة على استشراف السوق نجح في الترفيه عن الناس بربح قليل ولائحة طعام ومشروبات مدروسة. ولم يكن هذا الخيار وحيداً، بل هناك مشروع لمحلات “سناك” قرب البحر يستهدف الشريحة غير المقتدرة لتحفيزها على شراء أكثر من وجبة بعد ارتياد الشاطئ، وهناك عدد كبير من المحال فتح أبوابه مجدداً في الأيام المنصرمة” فـ”عمر برغل” الذي بدأ عمله في إدارة السناك قدم من الكورة؛ لأنَّ هناك “إجر” على البترون حسب تعبيره على عكس الجنوب وطرابلس، ولذلك قرَّر الاستثمار في البترون وخصوصاً أنَّ “المواطن اللبناني يهرب من المشاكل بالسهر والبحر هنا”.
وتخوض جارته في سناك آخر هذه التجربة للأسباب ذاتها، ولكنَّها تستهدف الأجانب الذين يريدون شراء مأكولات صناعة منزلية، فتجمع الطبخ من نساء البترون وتبيعه. هذه الأفكار الخلّاقة ليست الوحيدة للاستثمار في الحلقة السياحية؛ إذ يروي مدير “مشروع تايغا كافيه” لـ”نداء الوطن” كيف أنَّ مالك المحل الذي هو ابن المنطقة دمج مطعمه مع شريكٍ آخر ليتوسّع في رأسماله، وتعزيز قدرته على الصمود. وليست الشراكة المنطق الإداري الوحيد في البترون، بل هناك أيضاً من يوسّع أعماله في عزّ الأزمة الاقتصادية كمجموعة “مرشاق”؛ إذ يروي “جونيور ميشال مرشاق” تاريخ عائلته التي بدأت الاستثمار في هذا القطاع منذ العام 1868، وتحضّر حالياً مشروعها الخامس إضافة إلى أربعة معتمدين، فيُركّز على مبدأ “مركزية البترون”؛ إذ إنّ كلّ أعمال المجموعة تصبّ في المنطقة. ولا ينكر جونيور أنّ مشروع “مرشاق” متأثر بغلاء الأسعار إلّا أنّ التكاليف تُوزّع بين أكثر من طاولة وزبون، فيقلّ الربح.
هكذا تمتدّ الحركة “النار” في المدينة على أكثر من جبهة، فتسمح للميسور بأن يجد متنفَّساً له في المنطقة، وللفقير بأن يجول بعائلته ويسمح لأطفاله بالتعرّف إلى أكثر من محيط منزله، فـ”رين” التي تتوجّه الى الشواطئ العامة حيث تغيب تعرفة الدّخول، وبعدها إلى سناك، تجد نفسها قادرة على “كسدرة” أولادها، ولا سيّما أنَّ الرياضة هناك تُمارَس في الهواء الطلق، ويمكنها استئجار درّاجة هوائية لمدّة ساعة بعشرين ألف ليرة، أو ركوب “توك توك” للقيام بجولة قصيرة بتعرفة زهيدة. والحركة العابرة للمناطق في البترون سببها الأساسي بالنسبة إلى سيلفانا “جوّ الحياة وجلسات البحر” على حدّ تعبيرها، أمّا التكاليف فغير مهمّة؛ إذ يمكن بذلك انتقاء المكان الأنسب، فحسب رأيها أنَّ “الزربة في المنزل لا تنفع مع الأزمة الاقتصادية ولا يجب الرضوخ للظروف”.