Site icon IMLebanon

إنها جهنّم حقاً

 

… «نحن في جهنّم حقاً». ليست المرةُ الأولى تُطْلَق هذه العبارة في لبنان في الأسابيع الأخيرة، لكن أن تأتي على لسان المدير العام لمستشفى رفيق الحريري الجامعي الدكتور فراس أبيض فإن ذلك شكّل أقوى تعبيرٍ عن الرسم البياني الانحداري الذي لم يَعُدْ الواقع في «بلاد الأرز» يُقاس معه إلا على… «مؤشر الجحيم».

وجاء «نفيرُ الخَطَر» الذي دقّه أبيض على خلفية الأزمة الحارقة «المثلثة الرأس» التي تَكاتَفَ معها انقطاع البنزين والمازوت و«كهرباء الدولة» لوضع لبنان وجهاً لوجه أمام أشرس مظاهر الانهيار الذي خرجتْ معه العديد من الإدارات الرسمية عن الخدمة واستوجب نداءات استغاثة من قطاعاتٍ تجارية وغذائية وطبية على وقع ملامح «غَضَبٍ ساطع» تزداد تعبيراته في الشارع الذي انفلشتْ الاحتجاجاتُ فيه أمس مصحوبةً بدعوات لبدء «عصيان مدني».

وبدا هديرُ الانفجار الاجتماعي الذي يفاقمه تفلُّت سعر صرف الدولار من كل سقفٍ وبقاؤه أمس يلامس 18 ألف ليرة، أقوى من كل المناخاتِ التي باتت أقرب الى «البهلوانيات» والمتّصلة بملف تشكيل الحكومة الذي يُعتبر «القفل والمفتاح» في مسار بدء الخروج من الحفرة التي تزداد عمقاً كل يوم وتتضاعف سرعة السقوط الحر فيها.

ولم تأبه بيروت لِما بدا بمثابة «بالونات اختبار» حول صيغ جديدة للحكومة العالقة «بين نيران» الصراعات الداخلية والإقليمية ولا بالحديث عن أن اعتذار الرئيس المكلف سعد الحريري عاد الى التداول من دون إمكان الجزم لا بتوقيتٍ محتمل للعب هذه الورقة ولا إذا كان الأمر من مقتضيات المناورات التي تحتدم مع اشتداد عملية «عضّ الأصابع» مع فريق رئيس الجمهورية ميشال عون.

فـ «جَمْرُ» الأزمات اللاهبة والذي تمحور في الساعات الأخيرة حول ملف المحروقات لم يترك مجالاً للالتفات لـ «الألاعيب» السياسية فيما البلاد وكأنها في «حرب بقاء» يخوضها المواطنون في أبسط مقوماتِ الحياة اليومية، بـ «أعصاب احترقت» وحوّلت الشارع «قنبلة موقوتة».

وتمدّدت أزمة المحروقات، من خلْف ظهر قرار تسعيرها بدولارٍ مدعوم وفق منصة 3900 ليرة (عوض 1514) والذي سيرفع سعر صفيحة البنزين إلى نحو 70 ألفاً (من نحو 45 ألفاً) والمازوت الى نحو 60 ألفاً، وذلك بفعل محاولة السلطات المعنية ضمان عدم تحقيق الشركات المستوردة أرباحاً على حساب المواطن واتخاذها خطوة احترازية بوقف تسليم البنزين والمازوت الى حين القيام بجردة للمخزونات الحالية بما يضمن «احتسابَ فارق ثَمَن الكميات المتوافرة (جرى استيرادها بدولار 1500 ليرة) بعد اتخاذ قرار احتساب دولار الدعم للمنشآت النفطية بـ 3900 ليرة وذلك بغية استعادته لصالح مصرف لبنان»، وفي الوقت نفسه «الطلب إلى جميع محطات المحروقات أن تبيع مخزونها المتوافرة حالياً وعلى أساس سعر الصرف المدعوم الذي كان معتمداً أي 1514 ليرة للدولار».

وفيما لم تلتزم غالبية المحطات وأبقى قسم كبير منها على إقفال أبوابه بانتظار صدور جدول الأسعار الجديد، ومَن فتح أبوابه لم يبِع إلا كميات قليلة وسط تسجيل إشكالاتٍ في أكثر من منطقة بعضها تسبب بوقوع جرحى كما في صور، وبعضها الآخَر استتبع قيام مواطنين غاضبين بقطع الطريق بسياراتهم احتجاجاً كما حصل في صيدا، فإنّ عدم تسليم المازوت لزوم المولدات الخاصة (للاستخدام المنزلي والتجاري والاستشفائي كما في الإدارات العامة)، والانقطاع الفضائحي للتيار الكهربائي لأكثر من 20 ساعة في اليوم، استدرج إرباكاتٍ كبيرة وقوبل بصرخات تحذيرية من أكثر من قطاعٍ.

وإذ توقفت كلّ المعاملات في مركز الأمن العام في السوديكو منذ صباح أمس، بسبب انقطاع الكهرباء وعطل في المولدات الكهربائية، في موازاة توقف أنظمة أجهزة الكمبيوتر التابعة لوزارة المال في قصر عدل بيروت ما أدى لوقف كل معاملات استيفاء الرسوم (مع تعليق صناديق الجمارك في مطار رفيق الحريري الدولي قبض الرسوم بسبب عدم توافر الأوراق والمَحابر مع ما لذلك من تداعيات على حركة الشحن)، فإن تحذيرات أقرب الى قرْع ناقوس الخطر صدرت على خطين:

* الأول من أن تأخر توفير المازوت سيُفضي إلى كوارث على قطاعات مثل الدواجن الذي حذّرت نقابته من «القضاء على الدجاج الحي الموجود في المزارع كما في برادات المسالخ»، كما على السوبرماركت التي دعا مستوردو الأغذية لتوفير الحدّ الأدنى لهم ولها من المازوت لتفادي الأسوأ.

على أن «الصوت الأعلى» بخطورته كان للمدير العام لمستشفى الحريري الذي غرّد: «وضع تغذية الكهرباء للمستشفى غير مقبول. انقطاع لأكثر من 21 ساعة في اليوم. الفيول غير متوافر، واذا توافر، نعاني مشاكل سيولة. المرضى لا يستطيعون تغطية الفروق.

اتخذنا قرار وقف أجهزة التكييف إلا في الأقسام الطبية رغم موجة الحرّ. لا داعي لاستعمال المخيلة أو للتهويل، نحن في جهنم حقاً».

والثاني من أصحاب المولدات الخاصة الذين أعلنوا «نحن أمام كارثة من اليوم حتى الأربعاء، وإمّا يوقّع جدول الأسعار اليوم أو فليطلب من الشركات والتجار تسليمنا المازوت» وسط لجوء غالبية المولدات إما لإطفائها بالكامل أو اعتماد جدول تقنين قاسٍ لنحو 12 ساعة في اليوم.

ومع سريان أجواء عصر أمس عن قرب حل هذه الأزمة في ظل توقُّع بدء تفريغ البواخر الراسية قبالة الشواطئ اللبنانية اليوم وتأكيد مصرف لبنان سريان قرار توفير الدولار المدعوم وفق منصة 3900 ليرة لزوم استيراد المحروقات بعد الموافقات المسبقة، فإن هذا الأمر لم يحجب وطأة ارتفاع أسعار كل السلع التي ستتأتى (الى جانب بدء التسعير وفق دولار 18 ألف ليرة عوض 15 الفاً) من زيادة سعر البنزين الذي يدخل في تركيبة تسعير المواد كافة من خلال تكلفة النقل وفي الوقت نفسه من رفع سعر المازوت الذي يستعين به المستوردون والتجار وأصحاب السوبرماركت والمتاجر على أنواعها لحفْظ السلع وتبريدها، وسط تحذيراتٍ من أن عدم دعم مازوت المولدات للاستخدام المنزلي (على سعر 1500 ليرة) سيضاعف أسعار الاشتراكات.

ولم تقلّ وطأة علامات الاستفهام حول مدى قدرة الآلية الجديدة لتسعير المحروقات على توفير حلّ مستدام، ضمن مهلة الأشهر الثلاثة التي حددتها الموافقة الاستثنائية على استخدام «المركزي» الاحتياطي الإلزامي لتغطية استيراد المشتقات النفطية، ولا سيما أن تجربة الآلية نفسها مع مؤسسة كهرباء لبنان (أعطيت 200 مليون دولار لاستيراد الفيول) والتي كان يُفترض أن توافر ساعات تغذية بالتيار لنحو 8 ساعات يومياً على فترة نحو 3 أشهر لم تُفضِ سوى الى اقتصار التغذية على نحو 3 ساعات في الـ 24 وسط صمت مدوٍّ من المعنيين.

ومجمل هذه الفتائل تشابكت لتمتدّ على وهجها «شبكة احتجاجات» غاضبة هي الأوسع منذ أيام وشملت مناطق عدة في بيروت والشمال والجنوب والبقاع والجبل واوتوسترادات حيوية بدءاً من الصباح، وبعضها تخلله اعتداء بالحجارة على سيارات المارة كما جرى على أوتوستراد الجية باتجاه العاصمة، وسط تسجيل أكثر من تحرّك في الضاحية الجنوبية لبيروت أحدها لم يوفّر بالانتقادات «حزب الله» وقيادته «على الذلّ الذي بلغناه».

وفي مؤشر إضافي يعزز الخشية من تَعاظُم مظاهر الفوضى، قام بعض المودعين الغاضبين بالتجمع أمام مبنى «البنك اللبناني السويسري» في الحمرا عند نزلة السارولا واقتحموه، وعمدوا إلى تكسير وبعثرة الأغراض والأوراق قبل أن تصل القوى الأمنية ومخابرات الجيش الى المكان وتضبط الموقف.
https://www.alraimedia.com/article/1542472/خارجيات/لبنان-إنها-جهنم-حقا