كتب إيلي الفرزلي في “الاخبار”:
رضي كارتيل النفط عن التسعيرة الجديدة للمحروقات، فتوقّف عن خنق السوق. عشرة آلاف ليرة فرض زيادتها على التسعيرة التي صدرت الثلاثاء، تضاف إلى الـ١٥ ألفاً التي سبق لوزارة الطاقة أن زادتها ربطاً بتخفيض الدعم. لكن بالرغم من هذه الزيادة فلا يوجد تفاؤل بانتهاء الأزمة. التوقعات تشير إلى أن الطلب سيبقى مرتفعاً إلى حين الانتقال إلى مرحلة الرفع التام للدعم.
لا أحد في وزارة الطاقة يتوهّم أنها قادرة على مواجهة كارتيل النفط. كل طرف يدرك قوته. الكارتيل المؤلف من ثماني شركات تستورد البنزين والمازوت يدرك أنه قادر على خنق السوق متى شاء. حتى طوابير السيارات أمام المحطات استغلتها هذه الشركات الثماني لفرض رؤيتها، أو بشكل أدق شروطها على وزارة الطاقة. لذلك، لم تتردّد الأخيرة في إصدار جدولي أسعار خلال يومين، الفارق بينهما عشرة آلاف ليرة! صار سعر صفيحة البنزين 70100 ليرة، وهو السعر الذي يُتوقع أن يستمر بالارتفاع أسبوعياً، بسبب ارتفاع أسعار النفط العالمية. لكن إن كان هذا الارتفاع لن يكون كبيراً، فإن أحداً لا يمكنه أن يضمن الوصول إلى نقطة تحول ثانية في الأسعار خلال ثلاثة أشهر، هي فترة فتح اعتمادات المحروقات على سعر 3900 ليرة للدولار. بعدها، يتوقع أن يصل سعر الصفيحة إلى ما يقارب 200 ألف ليرة.
إلى ذلك الحين، هل ستزول الطوابير؟ تؤكد مصادر الوزارة أن التوزيع استؤنف أمس بالطاقة القصوى، حيث يُتوقع أن تفتح جميع المحطات أبوابها، بما يؤدي إلى تخفيف الضغط على شراء المحروقات، لكن من دون أن يلغيه. فمن كان يخزّن أو يهرّب عندما كان الدعم يتم على سعر 1500 ليرة لن يتوقف عندما صار الدعم على سعر 3900 ليرة، أولاً لأن الفارق بالسعر مع سوريا لا يزال كبيراً (سعر الصفيحة نحو 240 ألف ليرة)، وثانياً لأن توقّعات ارتفاع السعر بعد رفع الدعم نهائياً تُشجّع على التخزين.
لكن كيف وصل سعر صفيحة البنزين يوم الخميس إلى 70 ألف ليرة، بعدما كان يوم الثلاثاء 61 ألفاً؟ وهل فعلاً حصل خطأ في جدول تركيب الأسعار؟ سبق لمديرة النفط في وزارة الطاقة أورور فغالي أن أوضحت أن لا خطأ في الجدول، لكن مع ذلك كانت النتيجة زيادة 9 آلاف ليرة! تؤكد مصادر مطّلعة حقيقة أن تعديل السعر لم ينتج عن خطأ، لكن ما حصل أن إصرار الشركات على طريقة احتساب مختلفة، هو ما أدى إلى الزيادة.
وفي التفاصيل، يتبيّن أنه في مرحلة الأزمة، وبعد أن كان مصرف لبنان يدعم 90 في المئة من سعر الصفيحة، مقابل عشرة في المئة تدفعها الشركات على سعر السوق وغير مدعومة من مصرف لبنان، كان جدول تركيب الأسعار يشير إلى هذه النسبة بوصفها «عمولة إضافية مؤقتة». على سبيل المثال، إذا كان ثمن البضاعة واصلة إلى المرفأ 11.16 دولاراً للصفيحة، أي ما يعادل 16950 ليرة على سعر 1515 ليرة (كما كانت في الجدول الصادر في 23 حزيران)، فإن نسبة العشرة في المئة غير المدعومة قُدرت بـ13200 (معدل سعر الصرف احتُسب حينها على 12 ألف ليرة). ما حصل بعد تخفيض الدعم إلى 3900 ليرة للدولار أن بند العمولة المؤقتة صار ساقطاً، فمعدل الدعم الجديد يطاول مئة في المئة من سعر المحروقات، على سعر 3900 ليرة. جنّ جنون الشركات، انطلاقاً من أن نسبة العشرة في المئة كانت تغطّي ضمناً بعض المصاريف التي تُدفع بالدولار النقدي، ولا سيما منها: غرامات تأخير التفريغ بعد وصول الشحنة إلى المرفأ والتي تُدفع على أساس يومي، والرسوم المصرفية، أي الرسوم التي تُدفع للمصارف المراسلة بدل تعزيز الاعتماد (تؤكد لشركات النفط الخارجية أن مصرف لبنان فتح الاعتماد).
أما الوزارة، فقد اعتبرت أن هذه المصاريف يمكن شمولها في التسعير على 3900 ليرة، وهو ما لم توافق عليه الشركات. علماً أن مصادر مطلعة تؤكد أن نسبة العشرة في المئة التي تدفعها الشركات لم تكن تُدفع نقداً، بل عبر تحويلات مصرفية. وإذا صحّ ذلك، تكون هذه الشركات قد تمكّنت من تحقيق أرباح هائلة منذ بداية الأزمة، لكنها بمجرد شطب هذه العشرة في المئة من الحسبة، انتفضت مصرّة على إدخال مصاريفها بالدولار إلى عناصر تركيب جدول الأسعار، وهو ما تحقق في النهاية، لأن أي أمر آخر كان سيؤدي إلى الاستمرار في رفض التوزيع، في ظل عجز وزارة الطاقة عن إلزامها.
علماً أن الوزارة نفسها، بالرغم من الإجراءات التي قامت بها للحد من تخزين البنزين، إن كان في الشركات أو المحطات، لم تمنع هؤلاء من تحقيق أرباح هائلة، نتيجة التخزين وفارق السعر الذي وصل إلى 25 ألفاً عن كل صفيحة. فمديرية النفط، كانت أوقفت يوم الجمعة الماضي كل عمليات التسليم من الشركات الثماني التي تستورد النفط (كورال، توتال، يونيترمينال، مدكو، كوجيكو، هيبكو، وردية وأبيك)، بما يفترض أن يؤدي إلى بيع المخزون المتوفر في المحطات، إلا أن النتيجة كانت إقفال الأغلبية الساحقة من هذه المحطات، بالرغم من أن القوى الأمنية، بالتعاون مع وزارة الاقتصاد، ألزمت نحو 700 محطة منها على فتح أبوابها خلال الأيام الثلاثة التي تلت. أما بالنسبة إلى المخزون الذي كان متوفراً في خزّانات الشركات، فقد أبلغت إدارة الجمارك وزارة الطاقة بأنها أحصت وجود 110 ملايين ليتر. وقد عمدت الأخيرة إلى إبلاغ مصرف لبنان بذلك، تمهيداً لفتح اعتمادات جديدة ثم إجراء مقاصّة مع الشركات. لكن ذلك لا ينعكس على المخزون الذي كان متوفراً في المحطات، فبالرغم من أن الوزارة كانت طلبت من الشركات إبلاغها بالكميات المتوفرة في محطاتها والمحطات التي تزودها بالمحروقات، تمهيداً لإجراء المقاصّة بشأنها أيضاً، إلا أن مصادر مطلعة تؤكد أنه بسبب عدم وجود تقديرات رسمية للمخزون، لا يتوقع أن تصرح هذه الشركات عن أكثر من 20 في المئة مما هو متوفر، بما يعني تحقيق أرباح طائلة من فارق الـ25 ألف ليرة في سعر الصفيحة ما قبل تخفيض الدعم وما بعده، ستصبّ في معظمها في جيوب الكارتيل.
ألا تستحق هذه التجربة عودة الحكومة مجدداً إلى استيراد المحروقات؟ ذلك أمر صعب المنال في الوقت الحالي، تقول مصادر مسؤولة، خاصة في ظل الأزمة الراهنة. فمنشآت النفط التي يمكن اعتبارها المستورد التاسع، توقفت عن استيراد البنزين، بسبب شح السيولة، وبالتالي فإن تأمين حاجة السوق بكاملها، يتطلب أموالاً هائلة، لا يمكن تأمينها إلا ضمن خطة انقلابية تشمل تأميم أو مصادرة خزانات الشركات، ووضع سياسة واضحة للاستيراد.
وللتذكير، عندما بدأت منشآت النفط في استيراد البنزين منذ نحو عامين، كان مقرراً أن ترتفع حصتها السوقية إلى ١٠ في المئة، لكن في النتيجة انخفضت هذه الحصة إلى الصفر مع الأزمة. وهي حالياً لا تستورد سوى شحنتَي مازوت شهرياً، بالكاد يفتح مصرف لبنان اعتمادهما (ترسو شحنة مازوت تعود للمنشآت منذ نحو أسبوعين في مرفأ بيروت بانتظار فتح الاعتماد). وتشير مصادر مطلعة إلى أن ذلك يعود إلى تفضيل المصرف فتح اعتمادات الشركات لأنها تدفع نقداً، في حين أن المنشآت تدفع جزءاً نقداً وجزءاً عبر حوالات مصرفية (تبيع الموزّعين نقداً وتبيع الجيش عبر الحوالات).