تصحّ تسمية ازمة المحروقات التي انفجرت في لبنان منذ اشهر، بأمّ الازمات المعيشية اللامتناهية التي وجد اللبنانيون أنفسهم، بين ليلة وضحاها، اسرى دوامتها القاتلة. كل شيء انهار في البلاد: القطاع المصرفي والاستشفائي والدوائي والتعليمي والصناعي والسياحي، الا ان وطأة ما جرى على صعيد البنزين والمازوت، كانت الأثقل عليهم وعلى يومياتهم. فهم اصطفوا، للمرة الأولى منذ الحرب، في طوابير لا تنتهي للحصول على قطرة بنزين، بينما المازوت فُقد في شكل شبه تام، من السوق المحلي “الشرعي”. ومَن تمكّن بعد جهد جهيد، وحرقِ اعصابٍ وساعات، من ملء خزانه ببعض الوقود، علق مجددا في زحمة سير خانقة قبل الوصول الى مكتبه او منزله، بعد ان حوّلت الطوابير طرقَ لبنان الفرعية والرئيسية الى مرآب ضخم…
الانكى في مشهد الذل هذا، انه نتاج تقصير المنظومة الحاكمة وقلّةِ درايتها ومسؤوليتها. فبحسب ما تقول مصادر سياسية معارضة لـ”المركزية”، الكل كان يعلم اننا سنصل الى الكارثة هذه، الا ان السلطة آثرت التفرّج على التحرك، ولم تبادر الى ارساء حلول كانت متوافرة، من النفط العراقي الى الوعود بانشاء مصفاة لتكريره خلال 6 اشهر، كما اعلن الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. ولكن…”عالوعد يا كمون”.
منذ أشهر، حكومةُ تصريف الاعمال لا تجتمع. اما رئيسها حسان دياب، فعقد اجتماعات بالعشرات، مع المعنيين بالملف النفطي، وكذلك فعل وزير الطاقة ريمون غجر، بقيت كلّها عقيمة. هما، كما كل المنظومة، أُنذرا بأن المصيبة آتية، مع اقتراب احتياطيات المصرف المركزي من الخطوط الحمراء. كما وضَعَهما اهلُ القطاع في صورة المسبّب الاوّل والمباشر لأزمة المحروقات: التهريب الى سوريا- علما ان اقلّ الناس متابعةً للملف، بات على علم بهذه الحقيقة، لكن اهل الحكم ايضا، لم يحرّكوا ساكنا. فكان ان رفع المركزيّ “العشرة” منذ اسابيع، معلنا عجزه عن الذهاب أبعد في دعم المحروقات على الـ١٥٠٠، واتى ذلك على وقع استمرار نزف البنزين والمازوت بالصهاريج وبالغالونات، الى “الجيران”… فحلّت الكارثة!
بعد خراب البصرة، استفاق الحكّام من نومة أهل الكهف، فعُقد لقاء في بعبدا انتهى الى استمرار الدعم لكن وفق سعر ٣٩٠٠. وامس الخميس، بدأ فعليا تطبيقُ هذا القرار، مع صدور جدول تسعيرة جديد للمحروقات.
على الارض، لا تزال الطوابير على حالها وإن كانت ستخفّ قليلا في قابل الايام. فالمخرجُ الرسمي يعالج الازمة جزئيا لا بشكل جذري، خاصة وان التهريب مستمر والسلطة لا تبدو في وارد اتخاذ القرار الكبير بضبط الحدود، اذ ان الممسكين بدفة قيادة البلاد، مستفيدون بالمباشر او بطريقة غير مباشرة، من التهريب الحاصل. والى ان يُرفَع الدعم كليا – الامرُ المؤجّل ٣ اشهر على الارجح- ستبقى المحروقات تسرح وتمرح – ذهابا ولا ايابا – من لبنان نحو الشام.
المواطن وحده ضحية هذا السلوك المتواطئ، تتابع المصادر. وجولةٌ على المحطات كفيلة بتكوين صورة عن نبض الشارع و”قرفه”. ورغم الاسعار الجديدة، لا يزال بعض التجار، خاصة في الاطراف، يحتكرون المادة ويبيعونها بأسعار مضاعفة او يهرّبونها الى سوريا. اللبنانيون يلعنون مَن اوصلوهم الى الذل هذا، ويشكرون قلة قليلة من المسؤولين في الدولة المشلّعة، لا زالوا يحرصون على ان يوصلوا للمواطن ابسط حقوقه، ومنهم المؤسسةُ العسكرية برئاسة العماد جوزف عون الذي تدخّل للتخفيف ولو جزئيا من المعاناة مستعينا بـ “خزانات” الجيش (وهو سيجيّر مازوتا منها الى كهرباء زحلة مثلا) وايضا القيّمون على ادارة المنشآت النفطية، الحريصةِ على تطبيق القرار الصادر عنها، حيث يُشكَر مساعد مديرها العام زاهر سليمان، على تأمينه وصول المحروقات الى الناس، بالسعر الرسمي لا “الملغوم”، بعد اسابيع من “الشح والبهدلة”، سيما شمالا وبقاعا، وهي المناطق التي تلوّع فيها الناس من التهريب.
الفوضى في القطاع ستستمر اذًا، طالما الدولةُ مستقيلة من مهامها و”الدّني سايبة”. في عود على بدء، اليس دقيقا توصيفُ التعاطي الرسمي مع هذا الملف، بالفضيحة؟!