كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
كان مُخزِياً وموجِعاً ذلك المشهد الذي تمّ تداوله، قبل يومين، وفيه يقوم غاضِبون بطردِ عسكري من الجيش من موقعه في طرابلس، وبشكل مثير للاشمئزاز. فأي دماغ شيطاني هو الذي افتعل هذا المشهد وسواه من مشاهد صِدامية مع القوى العسكرية والأمنية، في هذا التوقيت، وفي هذا المكان، ولتحقيق أي هدف؟
لم تحصل «ضربة كَفّ» على مدى أسابيع من اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، على رغم أنّ مئات الآلاف قد نزلوا إلى الشارع من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. وكان ذلك أول نموذج اعتراض سلمي، لاطائفي ولامذهبي، منذ انتفاضة 14 آذار 2005.
فقط، في «ثورة» تشرين، قام المعترضون بقطع بعض الطرق بالإطارات المشتعلة، لكنهم إجمالاً تركوا للناس بدائل مفتوحة كي يُسيِّروا أعمالهم… إذا وُجِدت! واعترف الجميع، حتى المرجعيات الدولية، بأنّ «الثورة اللبنانية» كانت أكثر سلميةً من أي انتفاضة في دول العالم المتحضّرة، بما في ذلك انتفاضة «السترات الصفر» التي اجتاحت باريس وارتُكِبت فيها أعمال تحطيم وشغَب أوقعت خسائر فادحة في الممتلكات العامة والخاصة.
هذه الصورة السلمية كانت نقطة قوة للانتفاضة وإدانة لقوى السلطة. لذلك، عملت بخبثٍ على إسقاط الانتفاضة بـ»شيطتنها» وجَرِّها إلى مناخات التوتّر الطائفي والمذهبي والتصادم مع القوى العسكرية والأمنية. وكذلك، عمدت إلى زرع الشكوك بينها وبين الشعب، بتسويق أنّها مسؤولة عن التعطيل والمآسي.
ولا تُنسى مشاهد طوابير «الزعران» التي تولَّت خَرق الحشود وتهديدها وافتعال المواجهات بينها وبين القوى العسكرية والأمنية. واليوم، تبدو قوى السلطة في صدد تكرار السيناريو، بدءاً من طرابلس التي بدأت تشهد حوادث لا يمكن فَهمُها أو تبريرها، ومناخات متوترة بين جماعات الغاضبين والقوى العسكرية والأمنية.
وثمة مَن يعتقد أنّ الدماغ الشيطاني الذي افتعل مشهد الإساءة إلى كرامة العسكري في طرابلس، المعمَّم بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي، ربما يكون نفسه الدماغ الشيطاني الذي بادر باكراً، وقبل نزول الناس إلى الشارع، إلى «شيطنة» حراكهم والقول إنّه مرتبط بالخارج، ما يعني أنّ على الجيش والقوى الأمنية أن تتولّى التصدّي له وإحباطه.
ولكن، ما يجدر التنبُّه إليه هو أنّ معادلة 2019 قد تبدَّلت. فآنذاك، كانت المواجهة بين منتفضين يطالبون بالإصلاح وسلطةٍ تطلق الوعود بأنّها ستلتزم، وكان الانهيار في بدايته والقوى العسكرية والأمنية أكثر ارتياحاً. وأما اليوم، فالمواجهة صارت بين جائعين مُحبَطين وسلطةٍ أثبتت أنّها ماضية في النهب والفساد، فيما الاهتراء الكامل يَضرب حتى العسكر والأمنيين.
لذلك، ستكون عواقب المواجهة الحالية أسوأ بكثير من أي مواجهة سابقة، وستكون مغامرة السلطة باللعب بالنار اليوم أشدّ خطراً بكثير من مغامرتها بإحباط انتفاضة 17 تشرين الأول. وما يظهر حالياً من ملامح هذه المغامرة مقلق جداً، بدءاً مما يجري في طرابلس.
فصحيح أنّ في طرابلس شريحة واسعة من الفقراء الذين يمكن أن يشكّلوا نواة دينامية فاعلة داخل أي انتفاضة، ولكن الصحيح أيضاً هو أنّ هذه الشريحة تشكّل أرضاً خصبة للقوى التي تريد الاستثمار في الانتفاضة أو تعمل لضربها من الداخل.
وليس سرّاً أنّ القوى السياسية في المدينة تجاذبت فئة الفقراء وتوزَّعتها في صناديق الاقتراع، طوال سنوات. كما أنّ قوى أخرى من خارج المدينة، لم تتورَّع عن استثمار هؤلاء الفقراء لغايات مختلفة، وأيضاً للتلاعب بالصف السنّي.
وبعض هؤلاء «الفقراء» تمّ تجييشهم في حروب المَحاور المعروفة، في فترات معينة، والتي تُعتبر واقعياً «حروب الآخرين» في طرابلس. وبعض هؤلاء انقادوا في مسار تنظيمات معينة، بعضها متطرّف، منذ اندلاع الحرب في سوريا في العام 2011.
وهذه الفئة من فقراء طرابلس هي اليوم محطّ تجاذب بين القوى الداعمة للانتفاضة والقوى العاملة على إسقاطها. وثمة مَن يعتقد أنّ من السهل على القوى النافذة في السلطة أن تستثمر في الفقراء، في طرابلس كما في أي مكان آخر، بعدما وصلت إلى وضعية تُقارِب الجوع الحقيقي، ومن أجل البقاء على قيد الحياة، قد يوافق البعض على القيام بأي دور يُطلَب منه أن يؤدّيه.
ولمزيد من الإيضاح، الساحة السنّية في لبنان تعرَّضت على مدى سنوات، ولا تزال، لعمليات استغلال أكثر من أي ساحة أخرى: حروب الأحياء في طرابلس، حالة الشيخ أحمد الأسير في صيدا، حروب «داعش» و»النصرة» في جرود عرسال وجوارها، والتوترات «الموسمية» في بعض أحياء بيروت.
وثمة خشية من أن تكون بعض المظاهر المشبوهة في طرابلس جزءاً من سيناريو يهدف مجدداً إلى «شيطنة» المدينة وأهلها والطائفة السنّية عموماً. وطرابلس مثالية لتحقيق هذه الغاية، لأنّها الأبعد جغرافياً عن التماسّ مع القوى النافذة في السلطة. وتالياً، يصعب التفكير في اندساس هذه القوى في المواجهة. والهدف من هذه «الشيطنة» تشويه صورة أي انتفاضة جديدة وتبرير ضربها.
وللتذكير، إنّ جولات «العنف الثوري»، على مدى أكثر من عام، غادرت بيروت بغالبيتها وتركّزت في طرابلس، حيث جرى إحراق بعض المؤسسات الرسمية والمحكمة الشرعية في شكل مثير للاستهجان. ويقول المعنيون في داخل الحراك الشعبي في المدينة إنّهم يستغربون انزلاق الأمور إلى العنف غير المبرَّر. وهذا ما يزيد الشكوك في أن تكون أيدي السلطة هي التي تُحرِّك اللعبة.
ويخشى كثيرون أن يؤدي تشابك المصالح والمخططات إلى خلق تعقيدات في المشهد، يصعب حتى على القوى النافذة أن تقدِّر أبعاده. وتكمن المخاطر في أنّ «الشيطنة» في طرابلس يمكن أن تفتح باب المجهول طائفياً أيضاً. وفي هذه الحال، يدخل البلد بأسره في مأزق يصعُب الخروج منه.