إنها «جهنّم» التي يتم إيهام اللبنانيين بأنهم ما زالوا على أبوابها، فيما هم باتوا في قلْبها يكتوون بنارها في مختلف أوجه حياتهم التي يعيشها غالبيتهم… من قلّة الموت.
وأصدق تعبير وأدقّ توصيف لِما آل إليه واقع لبنان جاء على لسان وزير الصحة السابق محمد جواد خليفة (رئيس قسم جراحة الكبد والبنكرياس في الجامعة الأميركية) الذي غرّد: «كورونا وباءٌ يوجد له لقاح وسبل وقاية… ضرره في لبنان بات ثانوياً أمام الضرر المباشر وغيره الناتج عن فقدانٍ كاملٍ لغالبية الأدوية المرتبطة باستمرارية الحياة. أخذتْ الدولةُ وقتها للحل… نوقف التحاليل عن المتحوّر (الهندي) والمَحاور والأعمال… ونقول ظبّطوا حالكن… الصراع للبقاء».
وإذ جاء هذا التوصيفُ المُفجع وكأنه «حفْر تنزيل» على «التراجيديا» اللبنانية المفتوحةِ على المزيد من الفصول الدراماتيكية، فإن خطورته بدت مضاعَفةً كونه يأتي كأحد التعبيرات عن قرب اكتمال عناصر «الدولة الفاشلة» بالمعني الحَرْفي، وسط فقدان المواطن أدنى «حقوق الانسان» (الاقتصادية والاجتماعية) وكرامته التي تُنتهك مع كل رحلة بحث مضنية عن دواء وبنزين للتنقل وعن سرير في المستشفيات التي «تستغيث» وباتت «تحت أنقاض» الانهيار المالي، وعن نور منزلي يكسر العتمة شبه الشاملة التي صارت تهدّد قطاع الاتصالات والمياه، وعن لقمة عيشٍ أصبحت مغمّسة «بدم» الليرة التي يسحقها الدولار وودائع احتجزتْها المصارف في واحدة ربما من أكبر عمليات الإفلاس غير المعلَنة.
إنها موائد السمّ الذي يُجرَّع للبنانيين تدريجاً ويومياً، والذي ما عادت بإزائه أخبار السياسة ومكائدها تجد إلا مكاناً صغيراً في اهتمامات أبناء «بلاد الأرز» الذين يُطلب منهم هذه المرة، وعلى عكس كل «حروب البقاء» التي نجوا منها على مرّ تاريخهم، بأن يتكيّفوا مع ما يشبه «المستحيل»، مع «قتْلٍ جماعي» يتم «تجميله» وكأنه «موت رحيم» لشعب بأكمله.
وهكذا جاء «هدير» صرخة والدٍ موجوع من طرابلس، أقوى من كل «هدر الكلام» عن القطب المخفية، الداخلية والاقليمية، في أزمة تأليف الحكومة وهل عودة الرئيس المكلف سعد الحريري إلى بيروت قد تحمل وضْع تشكيلة جديدة يسلّمها لرئيس الجمهورية ميشال عون على طريقة «اللهم اشهد اني بلّغت» قبل البحث في الخطوة التالية وتحديد توقيتٍ لإطلاق «رصاصة» الاعتذار بحيث لا تصيب زعيم «تيار المستقبل» الذي يرفض حتى الساعة خروجاً غير منظّم من التكليف تكون أكلافه باهظة عليه كما البلد… صرخة أتت أقوى من كل «ألغاز» استمرار أزمة المحروقات رغم رفْع سعرها والتفاهم على آلية لتوفير الاعتمادات لاستيرادها حتى سبتمبر، وعدم إيجاد حلّ لأزمة الدواء التي بلغت الخطوط الحمر، والعجز عن توفير ديمومة في التيار الكهربائي تحت سقف الحدّ الأدنى الذي مُنحت «كهرباء لبنان» باسمه 200 مليون دولار لشراء فيول يوفّر 7 أو 8 ساعات تغذية (لنحو 3 أشهر) سرعان ما انخفضت الى ساعتين أو 3 فيما المولدات الخاصة رهينة المازوت الشحيح والذي لا يُعرف هل سيكون ممكناً معاودة توفيره في شكل مستدام في فترة قصيرة.
فمن عاصمة الشمال أطلّ والدٌ في فيديو صار «التراند رقم واحد»، وهو يقطع بسيارته الطريق في مقابل إحدى الصيدليات صارخاً إنه يملك المال وسيارة فيها بنزين ولكنه يعجز عن تأمين دواء مفقود سعره عشرة آلاف ليرة لطفلته التي تعاني ارتفاع الحرارة (40 درجة) منذ 6 أيام والتي خسرت 3 كيلوغرامات ونصف كيلوغرام من وزنها و«نشف جسمها من الماء»، رافضاً لوم الصيدليات على هذا الواقع بل«الدولة» وسائلاً «أين أنت يا قائد الجيش؟».
وإذ لم يتأخّر اللبنانيون عبر حملة على مواقع التواصل الاجتماعي في ضمان تأمين الدواء بعدما بدا الوالد في صرخته كأنه صوت كل آباء لبنان، فإن هذه النداءات المؤلمة باتت هي التي تطبع يوميات البؤس في «بلاد الأرز» التي كانت شهدت قبل أيام قليلة «استغاثة» والدٍ يحمل طفلته الصغيرة التي تعاني الربو وتحتاج إلى استخدام جهاز أوكسيجين في عاصمة الشمال «ماذا أفعل لا يوجد تيار كهربائي، ابنتي رحّ تروح بين ايديي»، ناهيك عن فيديوات مؤلمة لكبار سنّ يفترشون الأرصفة بعدما تُركوا فريسة الأزمة المالية، وصورة لسائق تاكسي نام على الطريق أمام محطة بنزين طوال الليل في انتظار أن تفتح أبوابها ويملأ خزانه بوقودٍ لـ… باب رزقه.
وعلى طريقة «السيء وراءنا والأسوأ أمامنا»، جاء تحذير نقابة مستوردي الأدوية من مخاطر عدم ترجمة آلية تغطية الاستيراد التي تم التوافق عليها مع وزارة الصحة ومصرف لبنان معلنة نفاذ مخزونها «من مئات الأدوية الاساسية التي تعالج أمراضاً مزمنة ومستعصية».
وأعلنت نقابة مستوردي الأدوية أنه «بعد مرور أسبوعين على إطلاقنا الصرخة حيال خطورة نفاد مخزون عدد كبير من الادوية لدى الشركات المنتمية اليها، والاستمرار في الوضع الحالي من دون التحرك الفوري لمعالجته»، فإن «عملية الاستيراد متوقفة بشكل شبه كامل منذ أكثر من شهر بسبب تراكم المستحقات المترتبة لصالح الشركات المصدرة والتي فاقت قيمتها الـ 600 مليون دولار، وعدم حصول الشركات المستوردة على موافقات مسبقة لمعاودة الاستيراد كما يفرضه قرار مصرف لبنان الصادر في بداية شهر مايو».
وإذ أشارت الى أن «الشركات المستوردة لا تزال تسلم احتياجات الأسواق من الادوية القليلة المتوافرة لديها ومن دون انقطاع ما يزيد من استنزاف ما تبقى لديها من مخزون من هذه الأدوية القليلة»، أكدت نفاد مخزونها «من مئات الأدوية الاساسية التي تعالج أمراضاً مزمنة ومستعصية، كما أن مئات من الأدوية الاخرى سينفذ مخزونها خلال شهر يوليو الحالي اذا لم نعاود الاستيراد بأسرع وقت».
وأكدت النقابة أن «الحل الوحيد في المدى القريب يقتضي بترجمةٍ على أرض الواقع للاتفاق الذي حصل بين وزارة الصحة العامة ومصرف لبنان برعاية رئيس الجمهورية وخصوصا في ما خص: الإبقاء على دعم الدواء بحسب أولويات وزارة الصحة العامة، دفع جميع مستحقات الشركات المصدرة في الخارج كي تعاود إمداد لبنان بالأدوية».
وفي موازاة ذلك، أكد نقيب المستشفيات الخاصة سليمان هارون أنه إذا تمّ دعم المازوت للمستشفيات سينعكس ذلك ارتياحاً على المريض.
وقال: “الأسبوع الماضي لم يكن هناك مازوت لا في مصفاة الزهراني ولا طرابلس وتواصلنا مع الشركات لإعطاء الأولوية للمستشفيات ولا تُحل المشكلة إلا بتأمين الكمية الكافية”.
وكانت أزمة شح المحروقات المستمرة هددت قطاعات حيوية في لبنان ولا سيما الأفران والمستشفيات التي كانت أعلنت أن مخزون المازوت عندها وصل إلى الحافة ما يضع في خطر حياة مئات المرضى.