كتب القائم بالاعمال البريطاني الدكتور مارتن لونغدن لمناسبة انتهاء مهامه في لبنان مقالة جاء فيها:
“مرت أيام أفضل شغل فيها أسبقون منصب رئيس بعثة السفارة البريطانية في لبنان. فقد أبهتت بريق لبنان تلك الأزمات التي تضاربت هذا البلد الرائع والمضطرب، من انفجار المرفأ إلى جائحة كورونا إلى الانهيار الاقتصادي، مفقرة شعبه وواضعة المؤسسات العامة والخاصة معا تحت ضغط لا يحتمل. ومن دون أي آفاق لقيام حكومة قادرة على السيطرة على الوضع، يتضاعف الخطر بثقله على مصير لبنان. على الرغم من كل ذلك، رسالتي وأنا على وشك مغادرة بيروت ليست رسالة قلق عميق، إنما هي أيضا رسالة أمل، إذ أرى في لبنان بلدا يزخر بقدرات استثنائية، في خضم مشاكله العميقة المقلقة. أرض الأرز هي بلد فعلا رائع: جماله الطبيعي أخاذ، من جباله إلى بحره، ثقافته الغنية والمتنوعة، وله شعب باجتهاده وإبداعه ينافس كل من في الشرق المتوسط ويتعداه إلى أبعد بكثير.
لا يمكنك إطلاق هذا المستقبل الأفضل إلا إذا تحررت من أغلال تاريخك وغيرت بشكل بنيوي طريقة العمل السياسي والحكومي. فلبنان اليوم على أهم مفترق طرق على الإطلاق: في أي اتجاه نريد الذهاب؟ أعذروا أسلوبي الجاف: ولكن في قلب لبنان شيء عفن. ففشل سوق أي كان للمحاسبة وتحميله مسؤولية الانفجار الكارثي للمرفأ الصيف الماضي هو أكثر الأمثلة الدراماتيكية للدناءة وعدم المسؤولية التي تتميز بها الكثير من الحياة اللبنانية. مؤسسات الدولة في حال خراب، والمصالح الخاصة محمية وميليشيا حزب الله تعمل بحرية من دون حسيب إلا نفسها. والنتيجة؟ تزداد النخبة غنى في حين يدقع الشعب في الخسارة عند كل منعطف.
ناقشت مع كافة أطياف النخبة السياسية موضوع الطريق المسدود في السياسة اللبنانية والوضع المتردي، وحذرت من المخاطر التي يأخذونها والضرر الذي ينتج عنها بحياة الشعب. وأصررت على ضرورة المساومة من أجل تأليف حكومة شاملة لها سلطة القيام بالإصلاحات وضرورة تأمين دعم بنك النقد الدولي. لكن للأسف صدى كلماتي، كما كلمات أصدقاء لبنان الدوليين الآخرين، يصل آذان صماء.
هنا تكمن المشكلة، لأنه ولو استمرت المملكة المتحدة ببذل جهدها دوما في الوقوف إلى جانب الشعب اللبناني، كما هو الحال لتاريخه بالنسبة للدعم الكبير للأمن والتعليم والدعم الإنساني، لا يمكن لهذه المساعدة أن تكون البديل عن المسعى الطارئ للسياسيين اللبنانيين بهذا الخصوص. لا يستطيع المجتمع الدولي وقف انحدار لبنان نحو الهاوية.
من السهل تحييد النخبة السياسية اللبنانية ووضعها بمنأى عن المحاسبة والفساد وكثر من اللبنانيين للأسف يقومون بذلك، لكن المشكلة أعمق، بحيث أنه بكل بساطة، لا يمكن لنظام متجذر بانقسامات طائفية أن يشكل أساسا لنموذج بلد ناجح في القرن الواحد والعشرين.
لقرون خلت والهدف الأساسي لهذا “النظام” اللبناني، بدل التطلع إلى المصالح الوطنية للبلاد، كان “موازنة” مصالح الفئات المتنافسة. والبعض يقول لي إنه ضروري لتفادي تفكك الفسيفساء اللبنانية الدقيقة، ربما، فمهم طبعا الحرص على احترام وحماية التنوع اللبناني ضمن إطار هذا الوطن. ولكن إلى ما أدى هذا النظام؟
لقد كان دوما التركيز على موازنة نتائج اللعبة، بحيث لا يحصل أي فريق على ما هو – بحسب اعتباره – أقل من حصته من ثروة لبنان وموارده. وفي خضم هذه المساعي للأخذ، أنفق القادة اللبنانيون موارده بغير مبالاة وبما يفوق قدرته على التحمل. ولبنان اليوم على شفير الإفلاس. لقد صبت النخبة السياسية تركيزها على تقسيم قالب الحلوى ولم يأخذوا في الاعتبار يوما أن يخبزوا بدله قالبا أكبر. البعض يقول إن المنطقة تقف في وجه أي تقدم. لبنان بلد صغير – هو بلد لانقسامات الآخرين الجيوسياسية وخضاتهم دور فيه. ومن المؤكد أن لبلدكم محيطا صعبا: عدد كبير من القوى الأجنبية لها اهتمام كبير في ما يحصل هنا. وأجنداتهم ليست دوما حميدة. ولكن ما لم يساعد هو هذه الغريزة الطائفية التي أعطت الثقة للقوى الأجنبية أكثر مما أعطتها لأخيها في الوطن. كلما كان لبنان ضعيفا ومقسما كلما كان أكثر ضعفا أمام مطامع الآخرين. لبنان حيادي، ناء عن النزاعات الأخرى في المنطقة هو عنصر أساس لمستقبل أفضل. والاستنتاج بأن على لبنان انتظار تصالح أمم أخرى قبل أن يحصل أي تغيير في الداخل هو استنتاج مميت.
لا شيء من كل هذا سهل التحقيق: إذ الأمور القيمة ليست سهلة التحقيق. لكن في خضم حال اليأس التي نعيشها، أنا مؤمن بأن التغيير في لبنان ممكن وسيتحقق. قمت بجولة دامت يومين الشهر الماضي إلى الجنوب، وصلت فيها إلى بنت جبيل. وكانت زيارة مدرسة رسمية في الريف واحدة من العناوين الرئيسية للزيارة حيث التقيت لبنانيين يافعين واستمعت لآرائهم وتطلعاتهم لهذا البلد. وهم ، بكل ما للكلمة من معنى، مستقبل لبنان. إذ جيلهم هو جيل أقل خوفا من انقسامات الحرب الأهلية كما هو جيل أكثر اتحادا مع من هم من عمرهم حول العالم من خلال التكنولوجيا: يرون في العالم ما هو أبعد من لبنان وبالتالي يرون أبعد مما هو ممكن في لبنان. لا أظن أن الممارسات البالية والفاسدة ستقدر على الصمود أمام نفاد صبر الشباب المتحمس لمستقبل أفضل ويجب ألا تفعل ذلك البتة. وهذا ما يعطيني في الصميم ذاك الأمل بمستقبل لبنان: حيث يهب جيل جديد لإنقاذ جيل قديم.
إن المملكة المتحدة، كونها الصديق والشريك الثابت للشعب اللبناني، ستكون فخورة بمشاركتكم هذه الرحلة”.