كتب جوني منير في “الجمهورية”:
الساعات المعدودة التي امضاها وزير الخارجية القطرية محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، كانت كافية لكي يخرج باستنتاجاته السياسية: «يبدو انّ ولادة حكومة جديدة مسألة ستطول». هذا ما ردّده امام الذين رافقوه، قبل ان ينهي مهمته القصيرة ويقفل عائداً الى بلده. وهذا الاستنتاج يتقاطع مع الهمس الذي يسود اجواء القصر الجمهوري والسرايا الحكومية: «حكومة تصريف الاعمال هي التي ستشرف على الانتخابات النيابية المقبلة، وربما رعاية مرحلة الاستحقاق الرئاسي».
اذاً، بات ثابتاً أن لا حكومة قريباً، وانّ المسألة لها علاقة بوجود قرار في هذا المجال اكثر منه التسويق لأعذار وتباينات لم تعد تقنع احداً. وبالتالي، فإنّ عقدة تسمية الوزيرين المسيحيين تصبح ذريعة لقرار موجود، له علاقة بغايات سياسية تطاول مسائل في العمق، في مرحلة إعادة رسم خريطة النفوذ السياسي في الشرق الاوسط. لذلك استعاد رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب نشاطه بعد طول انقطاع، وباشر في تفعيل نشاط وزرائه، ولو مع محاذرة تجاوز خط انعقاد جلسات لمجلس الوزراء، بغية عدم إثارة الشارع السنّي في وجهه مجدداً.
وانطلاقاً مما سبق، شارك دياب في اجتماع بعبدا المخصّص لمعالجة ملف الدواء، وقبله شارك في اجتماع المجلس الاعلى للدفاع، وستكون له دعوات ومشاركات في اجتماعات وزارية مختلفة.
واضح انّ هنالك من نصح دياب بتفعيل دوره للتعويض عن جزء من الفراغ الحكومي، طالما انّ القرار هو بعدم ولادة الحكومة. وتحت هذا العنوان، دعا دياب الى لقاء سفراء الدول الغربية والعربية في مقر رئاسة الحكومة. كان الهدف من هذا اللقاء سياسياً واعلامياً اكثر منه لوضع خطة دعم عملية، لكن اللقاء انقلب عليه، بعدما اعتُبر كلامه استفزازياً ولا يعكس الحقيقة.
وسُمعت السفيرة الاميركية دوروثي شيا تعلّق بانفعال، أنّ اللغة التي استخدمها دياب غير مقبولة، وهي تشبه الخطاب الذي يستخدمه «حزب الله». وقد لا يكون تشبيه شيا خالياً من الرسائل السياسية.
اما السفيرة الفرنسية آن غريو، والتي قطعت دوائر القصر الحكومي النقل المباشر لكلمتها اللاذعة، فبدا وكأنّها توجّه كلامها الى الطبقة السياسية الحاكمة بكاملها، وليس الى دياب فقط. هي قصدت رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلّف تشكيل الحكومة سعد الحريري، وحتى رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل والمكوّن الشيعي. ففي رأي باريس وواشنطن، انّه كان يمكن للمسؤولين في لبنان التخفيف من معاناة شعبهم، من خلال فكّ الارتباط بين مأساتهم الداخلية والتحولات الكبرى التي تشهدها منطقة الشرق الاوسط. قد يكون حافز التشجيع لأطراف السلطة، للاستمرار في سياسة المراوحة واللامبالاة والرقص وسط نار جهنم، حتى ولو اكتوى الناس، اقتناعهم بأنّ العواصم الغربية لن تتجاوز خط تفكّك لبنان وزواله. وقد ظهرت أخيراً اشارتان واضحتان في هذا الشأن: الاشارة الاولى، وتتعلق بالسماح للبنان بأخذ حصته المالية من صندوق النقد الدولي. هذه الحصّة التي تبلغ نحو 900 مليون دولار، كان يمكن للولايات المتحدة الاميركية حجبها عن لبنان بكل سهولة، ووفق الإطر والأنظمة الداخلية لصندوق النقد الدولي، لكنها لم تفعل، لا بل على العكس. ولذلك سيصل هذا المبلغ الى الخزينة اللبنانية في 27 آب المقبل، في عزّ الحاجة الملحّة التي تعصر ما تبقّى من موجودات مالية.
والإشارة الثانية، لها علاقة بالاجتماع الثلاثي لوزراء خارجية الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا والسعودية في ايطاليا، والذي جاء مفاجئاً، كونه لم يكن مقرّراً سابقاً، وتمّ الاعلان عن انّ لبنان احتل حيزاً اساسياً من هذا اللقاء.
ووفق المعلومات القليلة التي رشحت، فإنّ الوزير الاميركي انتوني بلينكن، ووسط إلحاح نظيره الفرنسي جان ايف لودريان، شجع الوزير السعودي فيصل بن فرحان على ضرورة مساعدة المؤسسة العسكرية اللبنانية لمنع لبنان من الانفجار والتفتت، وهو ربما ما يسعى اليه البعض.
قبل ذلك، وبنحو فاجأ الجميع، أحجمت السعودية عن المشاركة في مؤتمر دعم الجيش الذي دعت اليه فرنسا، لكن بعد اللقاء الثلاثي في ايطاليا، ثمة تبدّل ما في الموقف السعودي، ولو أنّه لم يصل بعد الى حدّ حسم موضوع المساعدات وشكلها وحجمها.
واستكمالًا لاجتماع ايطاليا الثلاثي، طلبت كل من واشنطن وباريس من سفيرتيهما في لبنان، زيارة السعودية، بعدما جرى التمهيد جيداً لذلك. وقد أريد للتواصل مع السعودية ان يحصل عبر سفيرتين في لبنان، كإشارة واضحة على التركيز الأميركي والفرنسي على الملف اللبناني والدور السعودي فيه. ووفق معلومات ديبلوماسية، فإنّ الزيارة تتمحور حول هدفين، الأول، السعي الى إعادة تعويم سعد الحريري مع السعودية. وذكرت المعلومات، أنّه ما كان ليتضمن البرنامج هذه النقطة لولا وجود بعض الاشارات المشجعة في هذا اللقاء. والثاني، العمل على إصدار إعلان نوايا يتعلق ببرنامج مساعدات الجيش اللبناني.
لكن القرار الدولي القاضي بعدم تجاوز خط اللاعودة، لا يعني التخفيف من هول الاوضاع وحدّتها وقساوتها على اللبنانيين. وفي بعض الجوانب، فإنّ الوقوف وسط جهنم يبقى أصعب واكثر عذاباً من الاحتراق بنيرانها.
ولأنّ السلطة السياسية مستقيلة من مسؤولياتها، وهي اتخذت قرارها بعرقلة الولادة الحكومية «لغاية في نفس يعقوب»، فإنّه كان لا بدّ من العمل على ضمان تماسك القوى الامنية، وخصوصاً الجيش اللبناني، لمنع البلد من الوصول الى مرحلة التفتت والزوال. ومن هنا ربما يمكن تفسير الحملات المستمرة، ولو تحت عناوين مختلفة، والتي تطاول الجيش اللبناني.
لذلك، تجاوز قائد الجيش العماد جوزف عون السلبية المقصودة التي تسود السلطة السياسية، وعمل ولا يزال للتواصل مع العواصم القادرة على مساعدة الجيش، لتمكين عناصره من الصمود وحماية الجيش من التفكك. هو نوع من انواع «التسكع» ربما، لكن لضمان عدم انزلاق البلاد الى نقطة اللاعودة. فالوضع هو فعلياً مقفل على الحلول ومفتوح على انهيارات متلاحقة حتى خيار اعتذار الحريري، ليس بالسهولة التي يتصورها البعض. صحيح انّه اتخذ قراره، وهو يدرس التوقيت والشكل والإخراج لطريقة اعلان اعتذاره، لكن المشكلة هي في تأمين البديل. وقيل انّ العودة الى خيار مصطفى اديب، والذي تؤيّده باريس، اصطدم بشروط اديب الواقعية. فهو الذي «لُدغ» في المرة الاولى، على الرغم من التشجيع والتأييد اللذين سمعهما عند تكليفه، يشترط الآن لقبوله المهمّة، اعلان الجميع الموافقة على التشكيلة مسبقاً، وإلّا فلا حاجة لاستنساخ المراوحة القاتلة الحاصلة حالياً.
لا شيء يبشر ببصيص أمل قريب، مع تراجع مضطرد كل يوم لما تبقّى من الطبقة المتوسطة، وهو ما يعكس حقيقة الخطر على الصورة المستقبلية للبنان، حتى لو جرى اجتراح حلّ ما بعد تجاوز هذه المرحلة المرعبة. ذلك أنّ تكوين هذه الطبقة الوسطى تطلّب عقوداً من الزمن، وجرى خلالها نمو وحماية ما يُعرف بالنخب اللبنانية، اضافة الى قطاعات اساسية شكّلت منارة للبنان، كمثل القطاعات الصحية والتعليمية والمصرفية… الخ. لقد اعتبر البعض انّ ردّ فعل السفيرة الفرنسية جاء قاسياً وربما مبالغاً فيه بعض الشيء. لكن في الواقع، ثمة احباط لبناني من عجز الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عن ترجمة مبادرته التي ولدت إثر انفجار الرابع من آب.
ففي استطلاع أجرته مؤسسة «الباروميتر العربي» حول تقييم اللبنانيين للدور الفرنسي، ابدى 46% رضاهم. لكن هذه النسبة انخفضت الى 38% عند سؤالهم عن تقييمهم للسياسة الخارجية لفرنسا في ظل الرئيس ايمانويل ماكرون.
فعلى الرغم من التلويح مراراً بالعقوبات على معرقلي الولادة الحكومية في لبنان، فإنّ أي اثر لم يظهر حتى الآن في هذا المجال، ما عزز انطباعاً بمحدودية فعالية ماكرون للمساعدة في حلحلة الأزمة الخطيرة التي تهدّد لبنان.