جاء في الراي الكويتية:
في خضم احتضار الواقع اللبناني والانهيار المريع في العملة الوطنية والأزمات الهستيرية في المحروقات والكهرباء والدواء واستمرار «احتجاز» عملية تشكيل الحكومة، تمر أخبار تجدد الحركة السياسية والأمنية على خط بيروت – دمشق من دون ضجيج حولها. فالانشغال السياسي والشعبي بكل المصائب الكارثية المفتوحة، ساهم في التعتيم على الزيارات اللبنانية إلى سورية في الأسبوعين الأخيرين، ولم تتحول تالياً حدَثاً استثنائياً، في حمأة المماحكات السياسية في بلاد تترنح على كف المجهول.
وإذا كانت «اللاضوضاء»، سببها أيضاً خفوت صوت ما كان يُعرف بـ«14 آذار» سابقاً، أحزاباً وشخصيات سياسية وعزوفها عن التعليق العلني المعارض لهذه الزيارات، فإن ما يجدر التوقف عنده هو التوقيت الذي جاء علانية بعد تجديد انتخاب الرئيس بشار الأسد.
ولم تَخْلُ تلك الزيارات التي شقت طريقها إلى دمشق من دلالات أهمها أن السعي إلى شبه تطبيع للعلاقات اللبنانية – السورية، ما زال محصوراً بفريق «الممانعة»، أي قوى «8 آذار»، رغم الترويج عن احتمال تحوله نحو لقاءات وزارية في سورية لبحث التعاون في ملفات مشتركة.
منذ انتخب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، واستقباله وفداً سورياً للتهنئة، لم تندفع العلاقة بين قصر بعبدا وقصر المهاجرين إلى المستوى الذي كان بعض خصوم عون يتوقعونه لاعتقادهم أن عون سيعززها ويخطو بها قدماً. ورغم أن العلاقة بين الرئاستين لم تنقطع، على المستوى السياسي والديبلوماسي، إلا أن الرئيس عون ظل حريصاً على عدم إشهارها في صورة فجة، لا سيما أن التسوية الرئاسية التي جعلت زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري رئيساً للحكومة، حالت دون استفزازه علانية، رغم أنه في ظل وجود الحريري سجلت أول زيارة رسمية لوزير الزراعة آنذاك حسن اللقيس للبحث في موضوع الصادرات اللبنانية.
إضافة إلى أن رئاسة الجمهورية تحاشت الدخول في متاهة الموقف من العقوبات الأميركية على سورية ونظامها. لكن كل ذلك لم يمنع من أن يكون لرئيس الجمهورية أكثر من شخصية إلى جانبه تربطها علاقة جيدة بالأسد، برز منهم وعلى نحو علني موفده الخاص إلى دمشق، الوزير السابق بيار رفول الذي أقام صلات جيدة مع مسؤولين سوريين.
وعلى المنوال نفسه سار حزب الرئيس، أي «التيار الوطني الحر» الذي تفادى تطوير العلاقة علنية مع النظام السوري. فرئيسه النائب جبران باسيل لم يزر دمشق أثناء توليه وزارة الخارجية. رغم أنه لوّح بهذه الزيارة أكثر من مرة، في سياق دعوته لإجراء محادثات مباشرة مع سورية في شأن أزمة النازحين. وكان لافتاً أن باسيل وجّه أخيراً أكثر من إشارة إيجابية لها، إلا أن النظام السوري يأخذ عليه مواقف تتسم بـ «العنصرية» من النازحين ورفع تياره لوحة جلاء الجيش السوري عند مصب نهر الكلب أسوة بلوحات مماثلة لجلاء جيوش الاحتلال.
والأكثر إثارة للانتباه، أن باسيل أَكْثَرَ في المدة الأخيرة من رسائله الإيجابية تجاه سورية، لا سيما بعد انتخاب الأسد لولاية جديدة. علماً أن «التيار الوطني» في رده على «القوات اللبنانية» إثر الإشكالات التي جرت يوم تدفق النازحين المقيمين في لبنان لانتخاب الأسد أكد «سنبقى مرفوعي الرأس حين نزور سورية».
ولم تصبّ زيارة المدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا لدمشق، في مصلحة العنوان الأمني الذي أعطي لها، أي موضوع التهريب، إنما بدا أنها لتفعيل العلاقة أكثر بين عون وحزبه مع دمشق، كون هذا الجهاز الأمني يُعدّ الأقرب إلى رئيس الجمهورية، وخصوصاً أن مكافحة التهريب على أهميتها الأمنية هي قضية أكبر من جهاز أمن الدولة، لا سيما أن الجيش والأمن العام وقوى الأمن الداخلي هي الأجهزة المولجة بمكافحة التهريب، وتالياً فإن المراقبة الحدودية لا صلة لأمن الدولة بها.
كذلك فإن المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم الوحيد الذي تعهد إليه زيارة سورية لمعالجة ملفات أمنية ضرورية، أما الجيش فله غرفة عمليات تنسيقية مع الجيش السوري حين تدعو الحاجة لإجراء اتصالات ذات طبيعة أمنية وعسكرية.
ولم تكن عابرة أخيراً الحركة السورية الديبلوماسية المتجددة في لبنان، رغم إنها ما زالت محصورة في إطار الأحزاب الحليفة لدمشق تقليداً، فهناك لقاءات تفعيلية تقوم بها السفارة السورية، وترتيبات تتعلق بالخلافات داخل الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي يعاني تشققات، واجتماعات تهدف إلى جمع أجنحته المتعددة. ويأخذ موضوع الحزب القومي حيزاً واسعاً من انشغالات السفارة السورية في بيروت والقيادات الرسمية في دمشق، نظراً إلى العلاقة التي تربط النائب أسعد حردان بالقيادة السورية، وهو الذي اُبعد من رئاسة الحزب وانتخبت قيادة بديلة معارضة له.
وإلى جانب هذا العنوان الحزبي تجرى محاولات توسيع اللقاءات مع حلفاء النظام السوري، الأمر الذي ترجم بزيارة وفد نيابي أخيراً الى دمشق، ولقاء وزير الخارجية فيصل المقداد. وضم الوفد آغوب بقرادونيان عن «الطاشناق»، وعلي حسن خليل عن «أمل»، وحسين الحاج حسن عن «حزب الله»، وعبد الرحيم مراد عن حزب «الاتحاد»، وأسعد حردان عن «القومي». هذه اللقاءات برز فيها مؤشر أساسي وهو وجود النائب علي حسن خليل في دمشق. فخليل هو اليد اليمنى لرئيس البرلمان نبيه بري، ورغم أن الأخير لم يقطع علاقته بسورية لكنه لم يقم بزيارتها في الأعوام الأخيرة (منذ بدء الصراع في الـ2011).
ووجود خليل في دمشق علانية يعد مؤشراً جديداً لكنه ما زال مضبوط الإيقاع، وتتحدث معلومات عن أن زيارته تشكل رسالة إلى قواعد حركة «أمل» يراد منها التذكير بعمق العلاقة مع سورية، وبأن دمشق على مسافة واحدة من «حزب الله» والحركة. ورغم أن هذا اللقاء لم يكن الأول على هذا المستوى، بل سبقته لقاءات بقيت بعيدة عن التداول الإعلامي، إلا أن مجرد الإعلان عنها يرتبط بوضع إستراتيجية جديدة تتعلق بإحياء دور سورية لبنانياً، في علاقاتها مع القوى الحليفة لها.
وإذ بدا أن هذا اللقاء يحمل سمات قوى «8 آذار» الحزبية، فإن ثمة معلومات متداولة تتحدث عن احتمال بدء زيارات وزارية متفرقة إلى دمشق، خصوصاً أن رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب أعلن أنه يرتضي الزيارات إذا كانت بهدف البحث في ملفات ثنائية لا سيما في قطاعات مشتركة مع سورية. ومن هنا جرى الحديث عن زيارة متوقعة لوزيرة الخارجية بالوكالة والدفاع زينة عكر.
الزيارة التي لم يقم بها باسيل حين كان وزيراً للخارجية، ولا وزير العهد المستقيل شربل وهبة، يمكن أن تقوم بها عكر، وهي غير البعيدة عن بيئة الحزب السوري القومي الاجتماعي وعن سورية، وتالياً يصعب ألا ترتد زيارتها داخلياً على العهد كما لو أن باسيل قام بها. لكنها في الوقت نفسه تحمل توجه عون وباسيل كونها من الفريق الأقرب إليهما، وهي اليوم تمثلهما في جولاتها الخارجية. وإذا حصلت الزيارة، تكون أرفع زيارة مسؤول لبناني يقصد دمشق منذ أعوام، لأن عكر نائبة رئيس الحكومة إضافة إلى توليها حقيبتين سياديتين.
وقد بدأت جولاتها الخارجية من مؤتمر وزراء الخارجية العرب في قطر وانتقلت إلى حضور مؤتمر روما للتحالف الدولي لهزيمة «داعش»، ومن ثم إلى ألمانيا حيث ناقشت ملف النازحين السوريين، لكن زيارتها لسورية ستبقى مجرد احتمال بعد رد فعل دمشق وانتقادها مؤتمر روما والدول التي شاركت فيه وتوقيعها على بيان أميركي معد سلفاً حول هزيمة «داعش».