كتب طارق ترشيشي في “الجمهورية”:
إغتنم سفير خادم الحرمين الشريفين في لبنان وليد البخاري الذكرى المئوية للعلاقات بين البطريركية المارونية والمملكة العربية السعودية، والتي تتزامن مع مئوية دولة لبنان الكبير، ليدشّن الصفحة الجديدة للعلاقة اللبنانية ـ السعودية وفق «رؤية المملكة 2030» التي يبدو أنها رؤية عابرة لحدود المملكة الى العالم العربي كله والعالم هادِفةً الى صَوغ علاقات المملكة الخارجية وفق متطلبات واقع الدولة السعودية ومستقبلها ودورها على الصعيدين العربي والدولي.
فقد تحوّلت مناسبة الاحتفال بمئوية العلاقة بين البطريركية المارونية والمملكة العربية السعودية التي شهدتها كنيسة الصرح البطريركي الماروني في بكركي، والتي أرّخها ووثقها الاباتي انطوان ضو بكتاب وزّع على الحاضرين في الاحتفال، مناسبة لإعلان المملكة بلسان سفيرها البخاري مبادئ علاقتها بالبطريركية المارونية وكل المرجعيات الدينية اللبنانية المسيحية والاسلامية وصولاً الى علاقتها بلبنان كدولة وفق رؤية المملكة 2030 التي «يشكّل العمق العربي ركيزة أساسية فيها لرسم آفاق المستقبل امام عولمة العروبة التي تتّسِع للجميع»، بحسب ما اكد البخاري في كلمته امام الحاضرين في المناسبة والمُنتمين الى كل الطوائف والشرائح اللبنانية، موجّهاً مِن «صرح المحبة» الى اللبنانيين «نداء السماء للأرض»، ومجدداً «العهد والوعد بدور المملكة العربية السعودية بنشر ثقافة السلام ومَد جسور الوسطية والاعتدال وتعزيز سبل التعايش وحفظ كرامة الانسان».
ولقد رسم بخاري من منبر بكركي مبادئ علاقة المملكة مع لبنان بكل طوائفه وليس بالطائفة المارونية وحدها وفق «رؤية المملكة 2030»، ويمكن تلخيصها بالآتي:
1 – الاستمرار في نشر ثقافة السلام ومَد جسور الوسطية والاعتدال لأنّ مستقبل المملكة ولبنان وكل هذا الشرق هو السلام بعيداً من التعصّب والطائفية والتطرف، وهذا ما يتلاقى مع تأكيد قداسة البابا فرنسيس وتوصيفه «انّ لبنان هو مشروع سلام رسالته هي أن يكون ارض تسامح وتعددية وواحة أخوة تلتقي فيها الأديان والطوائف المختلفة».
2 – التوصية بل العمل على المحافظة على التنوّع والعيش المشترك بين اللبنانيين الذي كَرّسه «اتفاق الطائف»، والذي أنتجه مؤتمر النواب اللبنانيين خريف 1989 في مدينة الطائف برعاية المملكة، والتي فَوّضها العرب والمجتمع الدولي رعاية تنفيذه لأنه «المؤتمَن على الوحدة الوطنية والعيش المشترك»، بحسب تأكيد البخاري.
3 – مساعدة الافرقاء اللبنانيين على مواجهة التحديات، ومنها «محاولات البعض» العبث بالعلاقة الوثيقة التي تربط لبنان بعمقه العربي، والتشديد على التزام دستوره المنبثق من «اتفاق الطائف» والذي يقول في مقدمته: «لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه»، وهو «عربي الهوية والانتماء». ويؤكد أن «لا شرعية لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك» بين اللبنانيين، فضلاً عن أنه «لا شرعية لخطاب الفتنة والتقسيم والشرذمة ولا للخطاب الذي يقفز فوق هوية لبنان العربي». وأكثر من ذلك، أسقط البخاري مقولة الاقليات وتحالف الاقليات مُقتبساً من وصايا رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى الراحل الامام الشيخ محمد مهدي شمس الدين قوله: «في منطقتنا العربية ـ الإسلامية لا توجد أقليات مسلمة ولا توجد أقليات مسيحية، بل توجد أكثريتان كبيرتان، إحداهما هي الأكثرية العربية التي تضمّ مسلمين وغير مسلمين، والأخرى هي الأكثرية المسلمة التي تضم عرباً وغير عرب».
وانطلق بخاري من ذلك ليشدّد على «العمق العربي» في رؤية المملكة 2030، فهذا العمق سيكون العنصر الجاذِب للعرب ومنهم لبنان الى المملكة والجاذِب لها في المقابل الى كل العرب، إذ انّ هذه الرؤية «هادفة الى تعزيز الانتماء الى هوية ثقافية معاصرة ترسم آفاق المستقبل امام عولمة العروبة التي تتّسِع للجميع وتَزخر بقبول الآخر والتفاعل والتكامل معه».
وتعني عولمة العروبة هنا أن تكون مظلة جامعة ركائزها الاعتدال والحوار والمحبة والسلام. ومن هذا المنطلق، تؤكد المملكة في كل المناسبات وقوفها على مسافة واحدة من جميع مكونات لبنان برفضها أو «عدم سماحها بالمساس بالهوية الوطنية اللبنانية ولا بنسيج العروبة تحت اي ذريعة لأنها تعتبر المسيحي كما المسلم مكوّناً أساسياً ووازناً في هذه الهوية المشرقية العربية الاصيلة»، بحسب البخاري.
خلاصة الحدث الذي شهدته بكركي أمس وكان لافتاً في دلالاته انّ المملكة في علاقتها مع لبنان بموجب «رؤية 2030»، إنما تهدف الى تكريس العروبة قولاً وعملاً الوعاء الجامع فعلياً لكل المكونات سواء كانت لبنانية او عربية، في إطار ثقافة السلام التي يقوم عليها «نداء السماء للأرض».
لكنّ الخلاصة الابرز لهذا الحدث هو انّ المملكة العربية السعودية خرجت من سياسة الصمت التي انتهَجتها ردحاً من الزمن حيال ما يشهده لبنان من تطورات الى سياسة العمل الجاد لتفعيل علاقتها التاريخية مع لبنان، إستعداداً لدور فاعل سيكون لها في قابل الايام عَكسَ عناوينه خطاب البخاري في بكركي أمس.