… لبنان وصل إلى القعر، ورهان الحدّ الأقصى هو على أن يوقف المسؤولون الحفرَ أعمق وليس على اجتراح حلّ إنقاذي متكامل بات يحتاج لـ «معجزة» في ضوء تَشابُك الانهيار المالي ومسارات معالجاته مع «الجوهرِ» السياسي لـ «العاصفةِ الشاملةِ» التي ضربتْ «بلادَ الأرز» منذ أن أكملت «جنوحَها» خارج الحاضنة العربية واقتيدت إلى فم صراع المَحاور وسط فقدانها تباعاً مختلف مقوّمات الدولة المكتملة المواصفات، سواء في رسْم السياسات الخارجية أو امتلاك قرار الحرب والسلم عبر قواها الشرعية، وكلاهما جانبان لطالما دفع الوطن الصغير أثمان «تفلُّتهما».
وهذا الواقع بالتحديد هو الذي يَحْكم الحِراك الدولي – العربي المتجدّد على خط الأزمة اللبنانية والذي يَمْضي في وتيرة متسارعة على مستويات وزارية رفيعة كما عبر نشاط استثنائي عبّرت عنه الزيارة الـ«ما فوق عادية» لسفيرتيْ الولايات المتحدة دوروثي شيا وفرنسا آن غريو للمملكة العربية السعودية في إطار المزيد من بلورة ملامح الاستراتيجية الديبلوماسية الثلاثية التي تسعى واشنطن وباريس لإرسائها منذ لقاء وزراء خارجية هذه الدول انتوني بلينكن وجان – ايف لودريان والأمير فيصل بن فرحان في 29 يونيو الماضي، على هامش مؤتمر قمة مجموعة العشرين في إيطاليا.
وفي انتظار أن تتكشف طبيعة اللقاءات التي عقدتْها شيا وغريو في السعودية، والتي وضعتْها الأولى تحت سقف البحث «في خطورة الوضع في لبنان، وأهمية المساعدة الإنسانية للشعب اللبناني وزيادة الدعم للجيش» في موازاة تحديد الثانية سقفاً إضافياً لها هو «العمل مع الشركاء الإقليميين والدوليين للضغط لوقف التعطيل ولتأليف حكومة ذات صدقية بهدف تحقيق الاصلاحات»، برز حرص السفيرتين أمس على نشْر صورة لهما خلال أحد اجتماعاتهما في الرياض عبر «تويتر» مع تعليق: «السفيرتان تخوضان اليوم في الرياض مشاورات ثلاثية مهمة مع المملكة العربية السعودية لبحث الوضع في لبنان ووسائل دعم الشعب اللبناني والمساعدة بتوفير استقرار اقتصاده».
وفيما اكتسبتْ الاندفاعةُ الدوليةُ ذات الصلة بالواقع اللبناني التي تقودها واشنطن وباريس أهميتها المضاعفة كونها تسبق بحث وزراء خارجية الإتحاد الأوروبي أزمة لبنان يوم الاثنين المقبل كما أنها جاءت على وقع إعلان الناطق باسم الخارجية الأميركية نيد برايس أن «على القادة اللبنانيين إظهار ليونة لتشكيل حكومة تطبق إصلاحات لإنقاذ الاقتصاد المتدهور»، فإن أوساطاً مطلعة اعتبرتْ أنه وبصرف النظر عن مآلات هذا الحِراك فإن السابقة الديبلوماسية في العلاقات بين الدول التي شكّلها قيام سفيرتيْن بزيارةِ بلدٍ ثالث لبحث أزمة البلد المعتمدتيْن فيه لها أبعادٌ بارزة لجهة نزْع «الاعتراف» ضمناً بشرعية السلطة في لبنان كامتدادٍ لإشاراتٍ غربية متلاحقة إلى أن التعاطي مع غالبية الطبقة السياسية بات على قاعدة أنها أشبه بـ «خارجة على القانون».
وبأي حال، تدعو الأوساط نفسها لعدم المغالاة في التوقعات حيال مآل هذه «الهبّة» الخارجية والتي ذهب البعض الى التوسع في تفسيرها على أنها تمهّد لمؤتمر حول لبنان يناقش أزمته في «أصْلها» السياسي والمتصل بتفوّق «حزب الله» ومن خلفه إيران في الواقع اللبناني بأبعاده الاقليمية.
واعتبرتْ أن من التبسيط تصوير حصول تفاهم خارجي تشكل رافعته واشنطن وباريس على خريطة حلّ للأزمة اللبنانية كفيل لوحده بترجمة مرتكزاتها، وكأن «الطرف الآخر» والذي يُمْسك بمفاتيح اللعبة الداخلية بكليّتها أي «حزب الله» غير موجود، ملاحِظة أن الحزب وعبر وسائل إعلامه أطلق ما يشبه «رصاصة الإنذار» بإزاء محاولات إرساء شبكة ضغط دولي – عربي بما يُخشى معه ألا تُفْضي لأكثر من تحقيق «توازن سلبي» في الوضع اللبناني.
وإذ أشارتْ الأوساطُ نفسها إلى ما أوردتْه قناة «المنار» التابعة لـ «حزب الله» تعليقاً على زيارة شيا وغريو للمملكة، معتبرة «أن السفارتين الأميركية والفرنسية أعلنتا في بيان لهما الانتداب السياسي الذي كان بالخفاء»، لفتت إلى أن الوجه الآخَر لهذا الموقف، كما لتقاطُع «الديبلوماسية متعددة الطرف» (وبات الفاتيكان جزءاً منها) حيال أزمة لبنان مع المرحلة البالغة الدقة في المنطقة انطلاقاً من عدم اتضاح اتجاهات الريح في الملف النووي الإيراني ومتفرعاته (لجهة ترسيم النفوذ في المنطقة)، يعكس أن «بلاد الأرز» قد تكون أمام مرحلة أشدّ قسوة من التجاذبات فيها وعليها ريثما تنقشع الرؤية في المحيط.
وفي حين استوقف هذه الأوساط ما نقلتْه وسائل إعلام لبنانية عن تقرير صادر عن لجنة الدفاع والقوات المسلّحة في البرلمان الفرنسي يوصي، في البند الرقم 6، بإرسال قوات دولية إلى «بلاد الأرز» بشكل طارئ تحت سلطة الأمم المتحدة والبنك الدولي في سبيل تعزيز الأعمال الإنسانية ومساعدة اللبنانيين، ودعم الجيش والقوى الأمنية لحفظ الأمن والإستقرار، مع التشديد على ضرورة اجراء الانتخابات النيابية والرئاسية في 2022، كان «حزب الله» يُعْطي إشاراتِ تَشَدُّد (مشفّرة) استعاد معها دعوة أمينه العام السيد حسن نصرالله قبل أيام لحسْم الملف الحكومي، وفق ما عبّر عنه بيان كتله نوابه أمس، الذي دعا «الى حسم المواقف، فما يتيحه الحسم اليوم للبنانيين أفضل من التأخر، فبعد إضاعة الوقت، الفرص قد لا تعود متوافرة».
وبدا هذا الموقف رسالة أخرى برسْم الرئيس المكلف سعد الحريري الذي لوّح بورقة الاعتذار واحتفظ لنفسه بتوقيت لعبها، والذي لا بدّ أن يدخل الحِراك الخارجي في اعتباراته في الطريق إلى تحديد خياراته النهائية وذلك من خلف كل الأجواء التي تشيع أنه بات قاب قوسين من العزوف وأن النقاش صار يدور حول ما بعد انسحابه من التكليف.