كنبت بولا أسطيح في صحيفة الشرق الأوسط:
يُجمع الخبراء والمعنيون بالشأنين المالي والاقتصادي على أن ما يشهده لبنان منذ عام 2019 غير مسبوق على مستوى العالم في التاريخ المعاصر، سواء لجهة حدة الأزمة وسرعة الانهيار، والأهم لجهة لامبالاة الطبقة السياسية الحاكمة باستيعاب ما يحصل من خلال إجراءات مستعجلة، لعل أبرزها تشكيل حكومة تدير الانهيار وتخفف من وقع وحدة الارتطام المرتقب. وتؤكد كل المعطيات أن البلد بات قاب قوسين أو أدنى من السقوط المدوي، وهو ما عبّر عنه رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب الأسبوع الماضي عندما جمع عدداً من السفراء والدبلوماسيين لإبلاغهم بأن «لبنان على مسافة أيام قليلة من الانفجار الاجتماعي». وكان قد سبقه رئيس الجمهورية ميشال عون عندما أعلن في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «لبنان يتجه إلى جهنم في حال عدم تشكيل حكومة».
يواجه لبنان اليوم عدداً قياسياً من الأزمات، تجعل مواطنيه بحالة صدمة، تفسّر عجزهم عن التحرك، كما فعلوا في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 للإطاحة بالمنظومة الحاكمة. إذ تراهم منهمكين بتأمين قوتهم اليومي ومقومات الاستمرار والصمود بعد فقدان معظمها نتيجة نضوب احتياطي الدولار الأميركي لدى مصرف لبنان (البنك المركزي)، ما يهدّد بانهيار كل القطاعات، وأبرزها قطاع الطاقة والقطاع الصحي… بعدما تلاشى معظم القطاعات الأخرى.
– أزمة «فريدة من نوعها»
«البنك الدولي» أعلن في أحدث تقاريره أن «الأزمة اللبنانية قد تكون إحدى أشد 3 أزمات، على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، نتيجة كساد اقتصادي حاد ومزمن». أما مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت فأقرّ بأن «خطر سقوط لبنان في مرتبة الدول الفاشلة بات واقعاً»، وذكر أن «مؤشر الدول الفاشلة»، الذي يصدره «الصندوق العالمي من أجل السلام»، يبرز تراجع لبنان 6 مراكز في الترتيب العالمي بين عامي 2020 و2021؛ حيث بلغ تراجعه خلال 5 سنوات 36 مركزاً ليصبح ترتيبه في عام 2021 بين الـ34 دولة الأكثر فشلاً من أصل 179 دولة يشملها التصنيف.
ويعتبر الدكتور ناصر ياسين، أستاذ السياسات والتخطيط في الجامعة الأميركية في بيروت والمشرف على «مرصد الأزمة»، أن «الأزمة اللبنانية لا تشبه أي من الأزمات الأخرى التي شهدناها في العقود الماضية»، موضحاً أنها «عبارة عن 3 أزمات كبيرة، مرتبطة الواحدة بالأخرى، الأزمة الأولى، أزمة الفجوة المالية المقدّرة بنحو 3 مليارات دولار والمكونة من 3 أضلع؛ تعثر المصارف، وإفلاس مالية الدولة، وتراجع موجودات مصرف لبنان. وهذه مجتمعة تشكل سابقة غير موجودة في أي دولة أخرى، ومن الصعب الخروج منها نتيجة صعوبة إعادة تكوين الأموال، لأن الأضلع الـ3 متعثرة، ما يعني الحاجة الماسة لضخ أموال من الخارج».
أما الأزمة الثانية، بحسب ياسين، فتكمن في «الدور الذي يلعبه بعض الأفرقاء اللبنانيين في الإقليم، وارتباط أحزاب وجماعات لبنانية بالصراع الإقليمي، ما أدى لازدياد العزلة الإقليمية وخسارة لبنان التحصين العربي، حتى الحصانة الدولية. وحل هذه الأزمة يتطلب نقاشاً على مستوى وطني لتحديد دور لبنان والأفرقاء اللبنانيين في الصراعات الإقليمية»، لافتاً في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «التمعن بهذه المشكلة يجعلنا نفهم لماذا لبنان متأزم أكثر وغير قادر على الخروج من الفجوة المالية الكبيرة التي يتخبط فيها».
ويصف ياسين الأزمة الثالثة، بـ«أزمة إدارة الحكم»، معتبراً أن «الحديث عن أزمة نظام تبسيط للمشكلة التي تكمن بإدارة التعددية والاختلافات». ويضيف: «حق الفيتو مثلاً يعطل البلد منذ سنوات، ما ينعكس على كل شيء وبخاصة على عجزنا عن التعاطي مع الأزمة المالية الاقتصادية كما التعاطي مع المجتمع الدولي وإدارة قطاعات مهمة. فقوة الفيتو موجودة في أبسط الأمور كتعيين موظف، أو إنتاج كهرباء»، مشدداً على وجوب حصول «نقاش وطني لتحديد من يلعب دور الحَكَم، الذي يفترض برأيي أن يلعبه رئيس الجمهورية فلا يكون طرفاً. لكن للأسف ومع التركيبة اللبنانية الحالية وتنافس الجماعات بطريقة تعزّز سياسات الهوية، تحوّل الرئيس طرفاً لا مرجعاً فوق الاختلافات بين الجماعات».
ويرى ياسين أن هذه الأزمات الـ3 تعمق أكثر المسألة اللبنانية، ما يضعنا أمام حالة «استعصاء للحلول تؤثر على كل شيء، وهو ما نشهده على مستوى القطاعات الحيوية حيث إنه لا إدارة صحيحة لموضوع المحروقات والدعم والطاقة والقطاع الصحي، والتعليمي، والبيئي… بجانب أن المؤسسات ما عادت لديها قدرة على التعاطي مع شؤون الناس وهي تضعف نتيجة غياب التمويل والدعم الخارجي». ويتابع: «إذا استمررنا على هذا المنوال فستطول الأزمة وتستمر لسنوات. البنك الدولي وضع مدة زمنية من 29 سنة، بأسوأ سيناريو، و12 سنة في أفضل سيناريو كي نعود لحجم الاقتصاد الذي كان قبل الأزمة. وهذا لا يمكن أن يحصل إلا إذا حصل تعاطٍ جدي مع الأزمة مترافق مع استقرار سياسي وإعادة إحياء قطاعات معينة، والعمل على سد الفجوة المالية من خلال الانفتاح على تمويل دولي مرتبط بإصلاحات جدية، عندها يمكن أن يتحرك الاقتصاد اللبناني، خاصة أن المجتمع اللبناني بنهاية المطاف مجتمع حيوي، لكن كل ذلك يتطلب قراراً سياسياً واضحاً».
ووفق البنك الدولي، تؤثر الأزمات التي يتخبط فيها لبنان على 4 خدمات عامة أساسية، هي الكهرباء، ومياه الشرب، والصرف الصحي، والتعليم.
– كابوس سعر الصرف
من ناحية أخرى، هناك كابوس «سعر الصرف» مع فقدان الليرة اللبنانية خلال أقل من سنتين أكثر من 90 في المائة من قيمتها أمام الدولار، إذ يبلغ سعر الصرف حالياً نحو 18000 ليرة لبنانية للدولار الواحد، بينما يستمر سعر الصرف الرسمي على عتبة 1500 ليرة للدولار. ومع بقاء الرواتب على ما كانت عليه، انحدر أكثر من نصف اللبنانيين إلى ما دون خط الفقر وفقدوا قدراتهم الشرائية. وقدّر مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت أخيراً أن أسعار السلع الغذائية ارتفعت 1100 في المائة، لافتاً إلى أن تضخّم أسعار المواد الغذائية الأساسية خلال شهر يونيو (حزيران) سيجعل 72 في المائة من الأسر تتعسر في تأمين طعامها.
من جهتها، تقول الدكتورة ليال منصور، الأستاذة الجامعية والباحثة في الشأنين الاقتصادي والمالي: «نحن لا نزال في بداية الأزمة الاقتصادية، طالما لم يحصل حتى الساعة اعتراف بالأزمة من قبل المسؤولين اللبنانيين، لأن الاعتراف لا يكون بالتصريحات، إنما باتخاذ إجراءات لمعالجتها». وتوضح منصور لـ«الشرق الأوسط» أن «الوضع اللبناني الحالي لا يشبه ما كان عليه الوضع في اليونان وقبرص، لأن أزمتهما كانت مصرفية لا نقدية، والفارق كبير جداً بينهما. فأزمة سعر الصرف في لبنان هي التي أدت لاحتجاز الودائع في المصارف بعد استنزاف الاحتياطي الإلزامي». وتضيف: «في كل بلد مدَولَر (لديه رفاهية استخدام عملة غير العملة المحلية، وفي حالة لبنان الدولار) عندما تحصل أزمة في سعر الصرف تتوقّف المصارف عن إعطاء الودائع بالدولار، ولا يعود البنك المركزي قادراً على السيطرة عليها لأنها عملة لا يطبعها، فيعوّض ذلك بطبع كميات كبيرة من العملة الوطنية ما يخلق تضخّماً هائلاً».
منصور تُشبّه الأزمة اللبنانية بأزمة الأرجنتين وبعض أزمات دول أميركا الجنوبية، وتعتبر أنها قريبة جداً من أزمة تركيا حيث إن السوق هناك «مدَولَر» بنسبة 44 في المائة. وتشرح: «نحن مقبلون على الأسوأ. بدأنا بأزمة سعر صرف، ثم أزمة المصارف، ثم في السوبرماركات والغلاء والمستشفيات والمحروقات. كل يوم نتأخر فيه ستتفاقم الأزمة… وما نؤكده أن سعر صرف الدولار لن يتراجع. فكل التعاميم لا تُعيد سعر الصرف إلى الخلف. إنها تخفف فقط من سرعة انهيار الليرة أكثر فأكثر». وهنا، تنبه منصور من التوجه لرفع الرواتب اليوم الذي سيفاقم التضخم الذي بلغ 400 في المائة، كما تحذر من تحرير العملة في الوقت الراهن، ووفق المعطيات الاقتصادية والمالية الحالية، خاصة أن نسبة «الدَولَرة» في لبنان تفوق 75 في المائة. وترى أن الحل الذي قد يبدو حاداً هو «وقف عمل البنك المركزي، أقله لـ20 سنة بعدما أثبت فشله، والتوجه لما يعرف بـ(التثبيت الشديد) hard peg أي استخدام عملة صادرة من الولايات المتحدة تكون عندها عملية قوية وبفائدة منخفضة قادرة على أن تستقطب الاستثمارات والأموال، فنكون بذلك قضينا على الفساد وتهريب الأموال والمشروعات غير منتجة وأعطينا المصارف الاستقلالية المطلوبة… وهذا ما فعلته الأرجنتين التي نهضت مجدداً قبل أن تسقط من جديد لأنها تخلت باكراً عن هذا النظام».
ويقدّر البنك الدولي أنه في عام 2020 انكمش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 20.3 في المائة، بعد انكماشه بنسبة 6.7 في المائة عام 2019. وقد انخفضت قيمة إجمالي الناتج المحلي للبنان من نحو 55 مليار دولار أميركي عام 2018 إلى ما يُقدّر بنحو 33 مليار دولار أميركي عام 2020، في حين انخفض نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بنحو 40 في المائة من حيث القيمة الدولارية.
ويتوقّع البنك الدولي أن يرتفع معدّل الفقر في لبنان ليشمل أكثر من نصف السكّان خلال العام 2021. وهو ما يتوافق مع توقّعات لجنة الأمم المتّحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)؛ حيث أشارت إلى ارتفاع معدّل الفقر من 28 في المائة إلى 55 في المائة بين العامين 2019 و2020.
ويعتمد مصرف لبنان منذ سنوات سياسة دعم، لقطاع الكهرباء، وسّعها لتشكل أكثر من قطاع بعد اندلاع الأزمة عام 2019. لكن مع نفاذ الاحتياطات بالدولار، وجد نفسه مضطراً في الأسابيع الماضية للانطلاق بعملية ترشيد الدعم، وصولاً لرفعه تماماً، وهو ما يؤدي لتفاقم الأزمات كافة. وأقرّ مجلس النواب اللبناني، الأربعاء، بطاقة تمويلية مخصصة للأسر الأكثر فقراً بالتزامن مع بدء رفع الدعم تدريجياً عن مواد أساسية، آخرها المحروقات، لكن مجلس الوزراء لم يضع حتى الساعة آلية لتوزيع البطاقات وتحديد المستفيدين منها، كما أنه لم يؤمّن لها التمويل اللازم.
وبحسب البنك الدولي، فإن الدعم الذي اعتمده مصرف لبنان كان عبارة عن «دعم مُشوّه ومُكلف وتراجعي».
– فقدان مقومات العيش
وهكذا، تحولت يوميات اللبنانيين خلال الأشهر القليلة الماضية لجحيم حقيقي بعدما باتوا ينتظرون ساعات أمام محطات البنزين لملء خزانات سياراتهم، بعدما باتوا يقضون ساعات طويلة في العتمة نتيجة الشح في الفيول الضروري لتشغيل معامل إنتاج الكهرباء والمازوت المستخدم لتشغيل المولدات الخاصة، مع نضوب احتياطي الدولار لدى مصرف لبنان وتأخره في فتح اعتمادات للاستيراد. وتراجعت تدريجياً قدرة مؤسسة كهرباء لبنان على توفير التيار لتصل ساعات التقنين في عدد من المناطق يومياً إلى 22 ساعة. ولم تعد المولدات الخاصة، على وقع شحّ الوقود، قادرة على تأمين المازوت اللازم لتغطية ساعات انقطاع الكهرباء، ما اضطرها بدورها إلى اتباع تقنين.
وتغرق المناطق كافة في ظلام دامس. وتنتشر بشكل شبه دوري مقاطع فيديو وصور لأشخاص يناشدون المعنيين التدخّل لتوفير الكهرباء من أجل تشغيل ماكينات الأكسجين لأطفالهم أو أفراد عائلاتهم؛ خصوصاً مناطق لا تتوفر فيها المولدات الخاصة. وكانت استغاثة رجل نهاية الشهر الماضي في مدينة طرابلس (شمال لبنان) لإنقاذ طفلته المصابة بالربو قد أشعلت تحركات احتجاجية في الشارع.
وانعكست هذه الأزمات على إدارات الدولة ومؤسساتها التي يبدو واضحاً أنها تتداعى نتيجة انقطاع الكهرباء وانقطاع الحبر والأوراق. فبعدما توقف العمل في وزارة الخارجية بسبب انقطاع مادة المازوت اللازمة لتشغيل المولدات، نتيجة انقطاع الكهرباء لساعات طويلة، توقفت صناديق الجمارك في مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت عن قبض الرسوم بسبب عدم توافر الأوراق والمحابر، ما أدى إلى مشكلة في حركة الشحن. وتزامن ذلك مع توقف كل المعاملات في أحد مركز الأمن العام بسبب انقطاع الكهرباء وتعطل المولدات الكهربائية، كما توقفت أنظمة أجهزة الكومبيوتر التابعة لوزارة المالية في قصر عدل بيروت، ما تسبب بوقف كل معاملات استيفاء الرسوم.
كذلك لم تسلم الأحكام القضائية من الأزمة وشحّ الأموال باعتبار أن إحدى المرجعيات تلقت رسالة جوابية رداً على مراجعتها حول دعوى كانت قد رفعها أمام مجلس شورى الدولة، مفادها: «القرار النهائي صدر، لكنه لم يرسل إلى التبليغ بسبب عدم توافر الورق في قلم مجلس شورى الدولة».
ولعل الأخطر من كل ما سبق، هو ما يحصل في القطاع الطبي، إذ يفتقد اللبنانيون كثيراً من الأدوية الأساسية بعد فقدانهم لأشهر حليب الأطفال. كما أن أمنهم الصحي بات مهدداً أكثر من أي وقت مضى لفقدان مستلزمات طبية أساسية ونتيجة تلكؤ الجهات الضامنة عن تسديد فواتير المستشفيات وحصر الطبابة بالحالات الطارئة.
ورفع مستوردو الأدوية مؤخراً الصوت، محذرين من نفاد مخزون مئات الأصناف الدوائية. وأعلنت نقابة مستوردي الأدوية، في بيان، أن «عملية الاستيراد متوقفة بشكل شبه كامل منذ أكثر من شهر»، بعدما تجاوزت قيمة المستحقات المتراكمة والمترتبة لصالح الشركات المصدرة للأدوية 600 مليون دولار، كان يجب أن يدفعها المصرف المركزي، بالإضافة إلى فتح اعتمادات جديدة. وقال نقيب مستوردي الأدوية، كريم جبارة، لوكالة الصحافة الفرنسية: «ستكون الحالة كارثية مع نهاية شهر يوليو (تموز)… سيحرم آلاف المرضى من أدوية علاجهم».
كذلك، يشهد لبنان هجرة جماعية للكوادر الطبية والتمريضية. إذ صرّحت نقابة الأطباء عن هجرة نحو 400 طبيب في العام 2020، وارتفاع العدد إلى 600 طبيب بحلول فبراير (شباط) 2021. فيما أشارت نقابة الممرّضات والممرّضين إلى هجرة جماعية، يشهدها القطاع التمريضي؛ حيث يوجد ممرّض أو ممرّضة لكلّ 20 مريضاً، وهو رقم منخفض جدّاً مقارنة مع التوصيات العالمية التي تحتّم وجود ممرّض أو ممرّضة لكلّ 8 مرضى.
وتتزامن كل هذه الأزمات التي تعصف بالقطاع الطبي مع وصول المتحور الهندي «دلتا» لفيروس «كوفيد 19» إلى لبنان، ما أدى لارتفاع عدد الإصابات مجدداً. وينبه الأطباء أن البلد سيكون مقبلاً على كارثة حقيقية في حال تفشي هذا المتحور في ظل الوضع المأساوي الذي يرزح تحته القطاع وفقدان الأدوية والمستلزمات الطبية.