Site icon IMLebanon

السعودية وبكركي والدبلوماسية الثلاثية

كتب علي شندب في “اللواء”:     

هل هي الصدفة المنظّمة، أم الصدفة العفوية هي التي أحدثت تلك العاصفة السياسية الإعلامية التي لفّت الواقع اللبناني. فتزامن زيارة السفيرة الأميركية دوروثي شيا رفقة نظيرتها الفرنسية آن غريو الى السعودية، مع الإحتفال بمئوية «العلاقة بين بكركي والمملكة العربية السعودية» التي وثّقها بالحبر غير السري الأباتي انطوان ضو بين دفتي كتابه الذي أرجأت إطلاقه 17 تشرين ومن ثم غزوة كورونا المتزامنة مع غزوة الانهيار المالي والاقتصادي، لتطلقه في خميس الأسرار الكبيرة والأسئلة القلقة على مآلات لبنان واللبنانيين.

فزيارة السفيرتين الفرنسية والأميركية الى الرياض، بدت قنبلة سياسية غير منزوعة الصاعق، سيّما وأن كل أجهزة الرصد والتحليل لم تزل تطلق العنان لمحاولاتها المستمرة في فك شيفرتها الطارئة على المفاهيم الدبلوماسية. كما إن الاحتفال الذي شهده الصرح البطريركي لمناسبة مئة عام من العلاقة بين البطاركة وملوك السعودية وأمرائها، قد ضاعف من حجم جهود فك الشيفرة بهدف الإحاطة بها وحصر تحوّلاتها وتداعياتها.

وبدون استرسال، فقد بدت البطريركية المارونية بالأمس متموضعة في الإتجاه الإستراتيجي المعاكس، لتموضع الرئيس ميشال عون والتيار الوطني الحر. وقد عكست الإتجاهات المتعاكسة، التمثيل المنخفض لرئيس الجمهورية بمدير المراسم الرئاسية في إحتفالية بكركي التاريخية. تمثيل بدا في وجهه الآخر، يعكس صغر حجم الغطاء البطريركي على الرئيس ميشال عون وسياساته، الذين ورغم جهود البطريرك بشارة الراعي لإحداث خرق في الإستعصاء المانع لتشكيل حكومة، ظهروا وكأنّهم في حرم كنسي بختم بابوي.

وفي محاولة لوضع الأمور في نصاب موضوعي، نعود الى «خطاب نجدة جبران باسيل»، الذي ارتدى فيه زعيم حزب الله عباءة «الحاكم لا الحَكَمَ» الذي ووفق أسلوب تسجيل النقاط والتمريك على خصومه اللبنانيين، وفي سياق إعلانه الجهوزية الحزبلّاهية لوجستياً وإدارياً لاستيراد البنزين والمازوت من إيران، قال نصرالله «أنا أدعو لكم أن يوفقكم الله بأن تذهبوا الى السعودية والى دول الخليج والى الأميركان وتُحضروا مازوت وبنزين وفيول للكهرباء، وأيضاً إذا أمكنكم أن تحضروا مواد غذائية لكي تكسروا الاحتكار والأسعار الموجودة في البلد اتكلوا على الله».

لكن، وما إن تطايرت الأخبار عن زيارة سفيرتي فرنسا والولايات المتحدة في بيروت الى السعودية للبحث في المساعدات الإنسانية للشعب اللبناني، فضلاً عن زيادة الدعم للجيش وقوى الأمن الداخلي، حتى شنّ إعلام حزب الله هجوماً عنيفاً على ما سبق وطلبه زعيمه العام، واصفاً السفيرتين بالمندوب السامي الذي يذهب الى دولة الإنتداب. وربما فات حزب الله وإعلامه أن الدول الثلاث مع سوريا هم بناة ورعاة إتفاق الطائف.

ورغم أن السفيرتين الأميركية والفرنسية، قد التقتا المسؤولين السعوديين المعنيين بالإغاثة والأعمال الإنسانية لتنسيق جهود دبلوماسية المساعدات الثلاثية. فقد أثارت زيارتهما الى السعودية الكثير من الزوابع السياسية والإعلامية من دون القدرة على الإحاطة الناجزة بكامل ارتداداتها وتداعياتها. فدوّي قنبلة إجتماع الرياض الاستثنائي لأجل لبنان، كان أكبر من دوي إجتماع وزراء خارجية السعودية وفرنسا والولايات المتحدة على هامش قمة العشرين في إيطاليا، رغم أن إجتماع الرياض إمتداد تنفيذي لاجتماع إيطاليا.

ولعلّ ما ضاعف من صعقة إجتماع الرياض غير المسبوق في عوالم الدبلوماسية السريّة والعلنيّة، والذي أتعب منظومات السلطة والسلاح والأمونيوم والكابتغون، أنه أتى مباشرة بعد حمّام التوبيخ الذي استجلبه لنفسه رئيس حكومة لا تصريف الأعمال حسّان دياب ومن السفيرتين إياهما، خلال الاجتماع الدبلوماسي الذي نظمه دياب للبنان المتموضع على شفير الكارثة ظاهريا. أما باطنياً فالإجتماع برأي مقربين من السراي الحكومي كان في بعض جوانبه لإضفاء الطابع الرسمي على توجّهات نصرالله، ورداً مرتجلاً على استثناء وزير خارجية قطر لمُصرِّف أعمال السراي الحكومي من برنامج زيارته الذي أعلن خلاله عن تقديم قطر هبة غذائية شهرية لمدة عام لإطعام جنود الجيش اللبناني، رمز الكرامة والعنفوان وحامي حمى لبنان.

ما تقدّم أعلاه يعكس بوضوح شديد، أن لبنان وضع على أجندات القوى الإقليمية والدولية، التي بدأت بانتهاج مقاربات مختلفة للوضع اللبناني بهدف كسر حلقات الجمود والإنسداد السياسي، خصوصاً حيال الإستعصاء في تشكيل حكومة قادرة على إنجاز الإصلاحات وخارطة الطريق لإنقاذ جمهورية الأشلاء اللبنانية من الزوال.

وفي آخر صليات صواريخه الصوتية قال نصرالله «إن الأزمة في لبنان هي أزمة نظام، لا أزمة حكومة»، وعلى مشجب أزمة النظام هذه، علّق نصرالله كل أزمات لبنان ومنها الفساد. في حين أن شرائح ونخب لبنانية وازنة جاهرت بعد 17 تشرين وحتى اليوم، وصدحت بأن أزمات لبنان متناسلة من معادلات نصرالله التي تواطأ فيها مع الطبقة السياسية ومنها «معادلة غطّوا على سلاحنا، نغطي على فسادكم»، وأن هذه الشرائح اللبنانية تعتبر أن في لبنان «أزمة منظومة، لا أزمة نظام». أزمة منظومة أثبتت فشلها وعجزها وعدم قدرتها حتى على تناسلها وإعادة تدوير نفسها.

لكن نصرالله في تصويبه على «أزمة النظام»، كان يستبطن هدفاً مركزياً لم يعد مضمراً، يرمي من خلاله الى التسليم بإستحالة الإستعصاء الحكومي، ليجعل من مطلبه في تغيير النظام، هدفاً لبنانياً واسعاً. مع إدراك زعيم حزب الله، بأن لا أحد في لبنان يشاطره سعيه لتغيير النظام، إلّا رئيس الجمهورية ميشال عون ووريثه الإيديوسياسي جبران باسيل، اللذين لديهما للمناسبة مع إتفاق الطائف ودستوره، ثأر قديم وحقد دفين موثقان بالحبر السرّي بين طرفي تفاهم مار مخايل.

وتوازياً مع الحبر والمحابر السرية، حريٌ بنا العودة الى محبرة الأباتي أنطوان ضو في كتابه «علاقة بكركي بالمملكة العربية السعودية» والذي احتضن إطلاقه الصرح البطريركي وسط حضور لبناني سياسي وعسكري ودبلوماسي وإعلامي عربي وأجنبي كبير، اكتظت بهم قاعة الصرح وساحته.

ومن منبر هذه المناسبة الثقافية، تطايرت الرسائل السياسية البليغة للبطريرك الراعي التي تضمّنت مقارنة بين ما تفعله إيران دون تسميتها، وبين ما تفعله السعودية. لافتاً الى أن السعودية «لم تعتدِ على سيادة لبنان يوماً، ولم تستبح حدوده ولم تورطه في الحروب». وفي ردّ على السيد نصرالله الذي يستشعر تقلّص وضيق مساحة التغطية المسيحية التي كان يوفرها العماد ميشال عون عندما كان تسونامي، قال الراعي «السعودية لم تميّز بين لبناني وآخر. كنّا نستشعر إحتضانها للمسيحيين. فأبناؤنا يهاجرون من أجل العمل لا للسياسة، وهم رسل لبنان، لا رسل دولة أخرى أو مشروع آخر». وتابع الراعي «مع السعودية بدت العروبة إنفتاحاً واعتدالاً ولقاء، وعلاقتنا بها تتخطّى المحاور إلى محور جامع هو الشركة المسيحية الإسلامية».

إنها الرسائل التي ضاعف من وتيرتها الدبلوسياسية، السفير السعودي وليد بخاري الذي قدّم مطالعة في مئوية العلاقة بين المملكة وبكركي، المتزامنة مع مئوية لبنان الكبير، واستند إليها في خطاب تأسيسي للمئوية الثانية. وفي ملاقاة واضحة لخطاب الراعي قال بخاري الذي استحضر في مطالعته الإمام الراحل محمد مهدي شمس الدين «تجدّد السعودية الشراكة تحت مظلّة عربية ركائزها المحبة والسلام. فالمسيحي كما المسلم مكوّن أساسي في الهوية العربية المشرقية»، ثم أمل بخاري من الأفرقاء السياسيين تغليب المصلحة اللبنانية، «لأن البعض يحاول العبث بالعلاقة بين لبنان وعمقه العربي وداخله، بمحاور تمسّ بهوية لبنان العربية». وفي غمز من قناة «تحالف الأقليات»، أكد بخاري أن «لا شرعية لمفهوم الأقليّات أمام شرعية مسلمة ومسيحية». لكن الموقف المتجدّد الذي استظهره بخاري رداً على توجّهات حسن نصرالله بتغيير النظام، هو ذلك الذي سبق وأطلقه من القصر الجمهوري باسم قيادة المملكة، واعتبر فيه أن «إتفاق الطائف هو المؤتمن على الوحدة الوطنية وعلى السلام الأهلي» واضاف اليه تحذيراً غير مسبوق بقوله «لا نسمح بالمساس بالهوية اللبنانية وتحت أيّ ذريعة».

أخيراً، حريٌ القول بأن يوم السعودية وبكركي في بكركي. معطوفاً على يوم لبنان المنكوب في السعودية، ربطاً بالجهود العربية والدولية والأمميّة لمساعدة الشعب والجيش اللبناني بعيداً عن المنظومة الحاكمة التي عزلت لبنان عربياً ودولياً وتتجرّع العزلة إياها، يقود الى نتيجة مؤدّاها أن مقاربات عربية ودولية جديدة بدأت تتبلور تجاه لبنان المفتوح ملفه خلال إجتماع الإتحاد الاوروبي المقبل، تزامناً مع كلام عن حشود عسكرية بريطانية في الأردن الذي ستنتقل إليه أيضاً القواعد الأميركية في قطر، ربطاً بإعلان البنتاغون تعزيز قواته في العراق، ربطا بطائرات أميركية تمسح المنطقة على إيقاع الهجمات التي تستهدفها في إربيل وقاعدة عين الأسد ودير الزور.

كل هذا يشي بإندلاع مواجهة كبرى ومحدودة مع إيران، بهدف تشذيب بعض تضاريس مواقفها في مفاوضات فيينا النوويّة. واذا لم تؤدِ هذه المواجهة نتائجها فيرجح أن تنطلق حرب كبرى، يرجح ألّا يكون لبنان بمنأى عن لهيبها وتداعياتها الخطيرة.