كتبت جويس الحاج خوري في “التلفزيون العربي”:
شاقة هي رحلة الوصول إلى مكتب المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار، فصعود الطبقات الأربع سريعًا، وسط درجات حرارة تتخطى الـ35 درجة يبدو منهكًا. لكنّ هدف اللقاء والاستماع إلى ما سيقوله يستحق عناء انقطاع الأنفاس.
في الطبقة الرابعة في مبنى قصر عدل بيروت، وفي آخر رواق مظلم، يقع مكتب القاضي البيطار، الرجل الذي أعطى آمالًا جديدة للعديد من اللبنانيين بأنه ما زال في “الدولة” من يمكن الركون إليه، آمال انطلقت بعد إصدار القاضي استنابات قضائية بحق شخصيات يعلم الجميع في بيروت أن حصانتهم السياسية لا يمكن المسّ بها.
تحيط بمكتب القاضي البيطار هذه الأيام حراسة مشددة لم تكن مألوفة في زيارات سابقة. لكنّ هذا التشديد الأمني ليس مفاجئًا، فما فعله الرجل قبل أسبوعين شكّل صدمة على الساحتين السياسية والشعبية.
في الخارج تستنفر العناصر الأمنية، أما في الداخل فيلملم الرجل أوراقًا تبعثرت من ملفات على طاولته.
رفض وزير الداخلية.. والخيارات المتاحة
لا يبدو القاضي البيطار مرتاحًا، ربما بسبب درجات الحرارة المرتفعة وانقطاع التيار الكهربائي في قصر العدل، وعدم قدرته على العمل وسط هذا الجو الحار.
أبادره بالقول: تبدو محبطًا.
يخرج من خلف مكتبه، يجلب كرسيًا ويجلس في الجهة المقابلة، قبل أن يجيب: “كيف لا أكون كذلك وقد بدأت الحملات تطالني”.
لا تتوقف رجله اليسرى عن التأرجح في مؤشر إلى عدم ارتياحه. أسأله إن كان قد تسلم رسميًا قرار رفض وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال محمد فهمي السماح بالتحقيق مع المدير العام للأمن العام عباس إبراهيم.
يحاول التهرب، فألحّ بالسؤال مرارًا، ليقول في النهاية: “نعم، استلمته”.
ماذا بعد؟ ما هو مصير التحقيق؟
يجيب: “التحقيق مستمر ولن أتوقف قبل كشف الحقيقة. لقد وصلنا إلى نقاط متقدمة جدًا في الجانب التقني من التحقيق، وبتنا على مشارف الانتهاء منه”.
لكن هل سيعيق رفض الوزير استكمال التحقيق؟
يجيب: “هناك طرق أخرى يمكنني اللجوء إليها للاستماع إلى اللواء إبراهيم”.
يتكتم القاضي البيطار في البداية، في محاولة لعدم الكشف عن الخطوات المقبلة. لكنه يكشف في نهاية المطاف أنه أرسل كتابًا بهذا الشأن إلى مدعي عام التمييز بالوكالة غسان خوري (مدعي عام التمييز بالأصالة القاضي غسان عويدات تنحى عن الملف لوجود صلة قرابة بينه وبين أحد النواب المتهمين غازي زعيتر).
ويضيف أنه طلب من المدعي العام الإذن لاستجواب إبراهيم، حيث سينتظر بعدها 15 يومًا، وهي المهلة المحددة للمدعي العام للرد على طلبه.
الفرضيات الثلاثة.. والمحاكاة المرتقبة
بالانتقال إلى الشق التقني الذي بات على بعد خطوات من النهاية، يعود سؤال أساسي إلى الواجهة: ماذا حل بالفرضيات الثلاث حول وقوع الانفجار؟
يقول البيطار: إن أيًا من هذه الفرضيات لم يستبعد من البداية، إلا أن احتمال أن يكون الانفجار ناجمًا عن صاروخ إسرائيلي استهدف المكان صار مُستبعَدًا، وهذا ما تضمنه أيضًا التقرير الفرنسي الذي تسلمه، حول تحليل التربة والمياه في مكان الانفجار.
تبقى فرضيتان: الأولى تتعلق بعمل أمني ميداني، والثانية فرضية التلحيم التي ترددت عقب وقوع الانفجار.
في الفرضية الأخيرة ينتظر القاضي البيطار تنفيذ محاكاة لانفجار الرابع من آب 2020.
ولإنجاز المحاكاة، تم تشييد بناء مشابه للعنبر رقم 12 الذي كانت وضعت فيه آلاف الأطنان من نيترات الأمونيوم. في هذا البناء، ستوضَع كمية صغيرة من النيترات وسيُجرى اختبار تلحيم، للتأكد مما إذا كان يمكن لشرارات التلحيم أن تصل إلى الداخل وتشعل المواد وتؤدي فعلًا إلى انفجار مشابه لذاك الذي حصل الصيف الماضي.
ويشرح البيطار أن أدوات التلحيم نفسها التي استخدمت قبيل الانفجار ستستخدم خلال المحاكاة. أما موعد العملية، فتحددها شعبة المعلومات التي عملت على تحضير هذه المحاكاة، وهي تنتظر ظروفًا مناخية مشابهة إلى حد كبير لما كانت عليه يوم الرابع من أغسطس.
الإصرار على كشف الحقيقة
يؤكد البيطار أن التحقيق لن ينتهي قبل أن تظهر الحقيقة. إصراره لا يزال على حاله. وإلى جانب البعد القانونيّ، يقارب البيطار الملف استنادًا إلى جانب إنساني أيضًا. يقول: إن الناس تنتظر الحقيقة، وإن أهالي الضحايا يؤكدون له في كل لقاء أنهم يريدون فقط معرفة الحقيقة.
ويستفيض البيطار في هذا الجانب: “هذا واجبي. هناك شباب ماتوا. هناك أشلاء عثر عليها وأخرى لم يعثر عليها بعد. هناك أهالٍ دفنوا في توابيت فارغة. وقد استلمت هذا الملف للوصول به إلى النهاية”.
ويضيف مؤكدًا: “قطعت وعدًا على نفسي يوم قبلت استلام القضية بأن أكشف الحقيقة”.
وهل ستستطيع تحقيق ذلك وسط كل ما يجري؟
يعود إلى السنوات الماضية ويعدد القضايا التي عمل عليها، من المواجهات بين جبل محسن وباب التبانة في طرابلس، ذات البعد السياسي المذهبي، إلى ملفات الإرهاب، وصولًا إلى ملف الطفلة أيلا طنوس التي بترت أطرافها الأربعة بسبب خطأ طبي. ويشرح كيف أنه في كل هذه الملفات، وفي أخطرها، لم يتراجع.
المسار الأخير.. محكمة الرأي العام
يفتح كلام القاضي البيطار عن “الملفات الخطيرة” الباب على سؤال آخر، يبدو أكثر مشروعية: هل تعرّض للتهديد بعد صدور الاستنابات في قضية المرفأ؟
يجيب بالنفي، مؤكّدًا أنّه لم يتعرّض لمثل هذا الأمر طيلة مسيرته المهنيّة.
لكن، هل تلقّى في المقابل أيّ تهنئة أو دعم بعد خطواته التي انقسمت حولها الآراء بين من اعتبرها “تهوّرًا” وبين من رأى فيها في المقابل “جرأة”؟
سريعًا، يجيب البيطار بنفي آخر، ما يؤكّد المؤكّد، فكلّ الخطابات الطنّانة المطالبة بالحقيقة، وتلك الرنّانة التي تؤكد أنّها تحت سقف القانون، ليست سوى “عراضات شعبية”، على جري العادة.
يتأهّب القاضي البيطار من على كرسيّه إيذانًا بانتهاء اللقاء، فأعاجله مرّة أخرى، بالسؤال الملحّ: ما مصير التحقيق؟ ماذا لو رفض مدّعي عام التمييز طلبه لملاحقة إبراهيم؟ وماذا لو رفض البرلمان رفع الحصانات المطلوبة؟
بإصرار وصرامة، يجيب البيطار: “سأصدر قراري الظنّي، وأذكر فيه، بالأدلة والبراهين، كل الأسباب والمعطيات التي دفعتني إلى ملاحقة هؤلاء، ورفضهم لذلك. وليحاكمهم الرأي العام”.
“بلدنا يستحقّ أبناءه، ولن يبقى كما هو، والتغيير يجب أن يحصل”. بهذه القناعة، يختتم القاضي البيطار حديثه، في موقف يؤكد الرجل من خلاله إيمانه بلبنان، فيما فقد كثر من أبناء البلد أيّ أمل بأن يعود “وطن الأرز” بلدًا تحكمه سلطة عادلة.
ربما هو هذا التعلق الواضح بلبنان الذي يجعل المحقق العدلي يقارب ملفاته، وكأنه يحكم في “جمهورية أفلاطون”، لا في لبنان.