جاء في “الأنباء الكويتية”:
ما شهدته بكركي الخميس الماضي لم يكن مجرد احتفال بصدور كتاب عن العلاقة بين البطريركية المارونية والمملكة العربية السعودية. فالعنوان ثقافي والاحتفال الذي رعاه البطريرك بشارة الراعي (وبدعوة من الرئيس العام للرهبانية الأنطونية المارونية الأباتي مارون أبو جودة لمناسبة إصدار الأباتي أنطوان ضو الأنطوني لهذا الكتاب) كان سياسياً بامتياز في توقيته وحضوره وتفاصيله و”رسائله” و”دلالاته”.
ـ في التوقيت أولا، يكفي أن احتفال بكركي جاء مباشرة بعد لقاء الفاتيكان بين البابا فرنسيس ورؤساء الكنائس المسيحية في لبنان، وتزامن مع تحرك دولي ناشط كانت السعودية جزءا منه عبر مشاركة وزير خارجيتها في اجتماع ضمه الى وزيري خارجية فرنسا والولايات المتحدة في إيطاليا. وهذا الاجتماع الثلاثي جرت متابعته عبر زيارة السفيرتين الأميركية والفرنسية في لبنان الى السعودية، وهذه زيارة تنفيذية تقنية في إطار الحث الأميركي الفرنسي المشترك للسعودية لمزيد من الانخراط في الشأن اللبناني، خصوصا على صعيد دعم الجيش اللبناني والمساعدات الإنسانية.
ـ في الحضور ثانيا، حيث فاق الحشد السياسي الرسمي في نوعيته وتنوعه طبيعة المناسبة في حد ذاتها، ليعلن حالة التفاف حول العلاقة اللبنانية مع السعودية. وإلى جانب السفير السعودي وليد البخاري، وحضر ممثل عن رئيس الجمهورية مدير المراسم في القصر الجمهوري نبيل شديد، والرئيسان أمين الجميل وميشال سليمان، والرئيس فؤاد السنيورة (مقابل غياب الرئيس سعد الحريري)، ووزير الداخلية محمد فهي (مقابل غياب وزيرة الخارجية زينة عكر)، وقائد الجيش العماد جوزف عون ووفد رفيع من حزب القوات اللبنانية (مقابل غياب التيار الوطني الحر)، إضافة الى نواب حاليين (تقدمهم نائب رئيس المجلس إيلي الفرزلي)ومستقلين (تقدمهم النائب المستقيل نعمة افرام)، وحشد من الفاعليات السياسية والفكرية والإعلامية والدينية والديبلوماسية.
ـ في الرسائل السياسية ثالثا التي أطلقها البطريرك بشارة الراعي والسفير السعودي وليد البخاري، وتقاطعت مع الغمز من قناة إيران وحزب الله من دون الإتيان على ذكرهما بالاسم.
البطريرك الراعي بعدما ذكر بأقوال الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود «لبنان قطعة منا، وأنا أحمي استقلاله بنفسي، ولا أسمح لأي يد أن تمتد إليه». وبعدما ذكر برعاية السعودية لمؤتمر الطائف الذي انبثقت عنه وثيقة الوفاق الوطني، وبعدما ذكر بزيارته التاريخية الى السعودية عام 2017، هذا بعض ما قاله:
ـ المملكة العربية السعودية فهمت معنى وجود لبنان وقيمته في قلب العالم العربي، ولم تسع يوما الى تحميله وزرا أو صراعا أو نزاعا، لا بل كانت تهب لتحييده وضمان سيادته واستقلاله.
ـ السعودية احترمت خيار اللبنانيين وهويتهم وتعدديتهم ونظامهم وتقاليدهم ونمط حياتهم.. وفي الواقع لم تتعد السعودية على سيادة لبنان، ولم تنتهك استقلاله، ولم تستبح حدوده ولم تورطه في حروب. لم تعطل ديموقراطيته ولم تتجاهل دولته. كانت السعودية تؤيد لبنان في المحافل العربية والدولية، تقدم له المساعدات المالية، وتستثمر في مشاريع نهضته الاقتصادية والعمرانية. وكانت ترعى المصالحات والحلول، وكانت تستقبل اللبنانيين وتوفر لهم الإقامة وفرص العمل. من السعودية بدت العروبة انفتاحا واعتدالا ولقاء، واحترام خصوصيات كل دولة وشعب وجماعة، والتزام مفهوم السيادة والاستقلال.
ـ كان اللبنانيون أوائل الذين سافروا الى المملكة وساهموا في مشاريع الإعمار والتصنيع والإنماء والسياحة والتعليم، ولعب وجهاؤهم، بناء لطلب ملوكها، دورا مميزا في تنظيم الإدارة وتوطيد علاقات المملكة مع الشرق والغرب. ولقد أخلص هؤلاء اللبنانيون هناك للمملكة وبادلوها الوفاء. وفيما لم تميز المملكة بين لبناني وآخر، كنا نستشعر احتضانها المسيحيين العاملين في أراضيها. والحق يقال إن أبناءنا حين يهاجرون، فللعمل لا للسياسة، وللدخل لا للتدخل، وهم رسل لبنان لا رسل دولة أخرى أو مشروع آخر. وهنا أتوجه الى كل لبناني يعيش في المملكة أويعمل فيها أن يحب شعبها ويحترم قيادتها ويلتزم قوانينها وتقاليدها، ويحفظ أمنها. فمن لا يكون مستقيما في الدولة التي تحتضنه لا يكون أمينا للوطن الذي أنجبه.
أما السفير البخاري فحرص على إطلاق وعود والتزامات فحواها أن السعودية لم تتخل عن لبنان ولم تغادره. ومما قاله:
ـ تؤكد المملكة أنها لا تسمح بالمساس بالهوية الوطنية اللبنانية ولا المساس بنسيج العروبة تحت أي ذريعة كانت. فالمسيحي كما المسلم مكون أساسي ومكون وازن في هذه الهوية المشرقية والعربية الأصيلة.
ـ تجدد المملكة اليوم الشراكة والأخوة تحت مظلة عروبية جامعة ركائزها الاعتدال والحوار والمحبة والسلام. وتجدد العهد والوعد بدور المملكة العربية السعودية بنشر ثقافة السلام ومد جسور الوسطية والاعتدال وتعزيز سبل التعايش وحفظ كرامة الإنسان.
ـ العلاقة بين المملكة العربية السعودية والبطريركية المارونية تمثل ضمانة حقيقية للحفاظ على لبنان الرسالة، لبنان الحر والسيد المستقبل.
أما الرسالة السياسية الأبلغ، فجاءت في هذا المقطع:
ـ انطلاقا من مرجعية بكركي التاريخية وأهمية الدور الوطني والجامع لغبطة الكاردينال الراعي، نوصي بالمحافظة على التنوع والعيش المشترك الذي أرسى أسسه اتفاق الطائف المؤتمن على الوحدة الوطنية وعلى السلم الأهلي. وآمل من الأفرقاء السياسيين أن يغلبوا المصلحة اللبنانية العليا لمواجهة التحديات التي يعيشها لبنان، ومن بينها محاولة البعض العبث بالعلاقة الوثيقة بين لبنان وعمقه العربي وإدخاله في محاور أخرى تتنافى مع مقدمة الدستور اللبناني والتي تنص وبوضوح تام على أن «لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، عربي الهوية والانتماء حيث لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، لا شرعية لخطاب الفتنة والتقسيم والشرذمة، لا شرعية لخطاب يقفز فوق هوية لبنان.
ـ في الدلالات والمغزى السياسي رابعا:
1 ـ تشكل هذه المناسبة أولى مؤشرات العودة السعودية الى لبنان ومن بوابة بكركي هذه المرة، وبما يعني أن العلاقة السعودية انتقلت من مرحلة العلاقة المركزية التي تمر أولا وأحيانا حصرا عبر مرجعية أو زعامة، الى «اللامركزية في العلاقات»، بمعنى أنها تشمل كافة المرجعيات والزعامات وأولها البطريركية المارونية… وبما يعني أيضا أن العلاقة السعودية مع المسيحيين ستمر أولا ومن الآن فصاعدا عبر بكركي.
2 ـ وجه البطريرك الراعي بعد هذا الاحتفال «رسالة تطمين» الى السعودية بأن المسيحيين في لبنان ملتزمون الخط التاريخي للعلاقات والعمق العربي للبنان، واتفاق الطائف كأساس وضمانة لرسالة العيش المشترك.. ولكن الرسالة الثانية التي قصد الراعي توجيهها هي الى «السنّة في لبنان» الذين ساورهم في السنوات الماضية قلق حيال دخول المسيحيين في خيارات وتحالفات ومحاور لا تتناسب مع دورهم في لبنان ودور لبنان في المنطقة. وأكثر من مرة عبرت القيادات السنية عن موقفها بأن جزءا من الخلل الذي طرأ على مسيرة الطائف وعلى المعادلة الداخلية إنما يعود الى الغطاء الذي أمنه الرئيس ميشال عون والتيار الوطني الحر لحزب الله، خصوصا وأن هذا الغطاء جاء مستندا الى شرعية شعبية «انتخابية».
3 ـ بمقدار ما يؤدي احتفال بكركي غير الاعتيادي الى تقليص مساحة التباعد والتنافر بين المسيحيين والسنّة وخفض التوتر السياسي الذي يدور حول الأدواء والحقوق والصلاحيات وبلغ ذروته في معركة الحكومة، فإنه يؤدي أيضا الى تفعيل دور بكركي السياسي في هذه المرحلة، بعدما عمل البطريرك الراعي في هذا الاتجاه منذ سنة بانتهاجه مواقف متمايزة بسقف عال (الحياد والمؤتمر الدولي) ونقل مركز الثقل والموقف المسيحي الى بكركي. وبعد كل ذلك، يصبح من الطبيعي وغير المستغرب أن يثير احتفال بكركي «نقزة» أو «قلقا» عند جهات متعددة ترى فيه إما إحياء لتكتلات و«ثنائيات»، وإما سحبا لبساط التمثيل والموقف المسيحي من تحت أقدام المرجعيات السياسية.