يتقلّب الشرق الاوسط على وقع تسوية كبرى بدأت معالمها بالظهور تدريجاً عبر اتّفاقات التطبيع مع اسرائيل بغية تحقيق مشروع السلام الشامل والعادل في المنطقة، رسمت خطوطها العريضة إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. تسلّم الرئيس جو بايدن الحكم مع تركة ثقيلة تبدأ بالاقتصاد الأميركي المتهالك جراء جائحة كورونا ولا تنتهي في الصين وروسيا، وفي ما بينهما الشرق الاوسط، حيث تُظهر الوقائع ان إدارة بايدن لا تريد حرباً في المنطقة، وتتجنب المواجهات العسكرية. فهل هذا الأمر سيدفع بالإدارة الأميركية الى اتخاذ قرار سحب قواتها من المنطقة بعد التسوية الكبرى؟
السفير السابق في واشنطن انطوان شديد يوضح لـ”المركزية” “ان أول اهتمامات الولايات المتحدة يصبّ راهناً باتجاه الصين وشمال شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي وروسيا، بينما الشرق الاوسط لم يعد له هذه المكانة الكبرى من ضمن السياسة الأميركية الكبرى، وخصوصا الحالية منها، لكن هذا لا يعني ان هناك انسحاباً كليّاً للادارة الأميركية من المنطقة”، متوقعاً “أن تقوم الولايات المتحدة بانسحاب عسكري تدريجي، ضمن تحدٍ كبير، من العراق، في مقابل ترددها من الانسحاب من المناطق التي تتواجد فيها في سوريا، وذلك رهن بما سيتم الاتفاق عليه مع تركيا وروسيا، لكن ما زال باكرا للجزم بهذا الامر. إنما لا شك في ان الشرق الاوسط لم يعد الموضوع الاهم بالنسبة الى الادارة الاميركية وقد أعلنت عدة ادارات متتالية أنه كلفها الكثير من الضحايا وتريليونات الدولارات. صحيح ان الولايات المتحدة يهمّها أمن إسرائيل لكنها في الوقت نفسه لا ترى أنه مهدّد في الوقت الحاضر لدرجة تستلزم الوجود العسكري او الاهتمام الاساسي في المنطقة”.
ورداً على القول بأن لا تضحيات أميركية بعد الان، وان الضغط سيكون عبر العقوبات والعمليات الأمنية كما حصل في البوكمال على الحدود السورية العراقية ردا على تعرض السفارة والمصالح الأميركية في بغداد، يجيب شديد: “طالما ان الولايات المتحدة تتلقى ضربات عسكرية فمن الممكن ان تردّ بضربات مشابهة كما حصل في البوكمال، لكن عنوان سياستها الأساسية في الشرق الاوسط هي العقوبات والوضع الاقتصادي، لم يعد الأميركيون يريدون ما كان يسمى بـ boots on the ground اي الوجود العسكري على الارض، بل انتقلوا الى الحروب الاقتصادية وعنوانها “العقوبات”، وستستمر ادارة بايدن بفرض العقوبات كما كانت ادارة ترامب، لكن بطريقة مختلفة”.
عن التسوية الكبرى والتطبيع مع اسرائيل ومشروع السلام العادل والشامل، يقول: “لا اعتقد ان الادارة الاميركية الحالية ستكون ضد خط تطبيع بعض الدول العربية علاقاتها مع اسرائيل، بالعكس ستشجعه وترحب به، هذه السياسة لن تتغير، لكن الامر عائد إلى الدول العربية التي ستقوم بالتطبيع”.
وفي اولويات الادارة الاميركية الملف النووي حيث تسعى للتفاوض بشروطها، وسط معلومات عن تقديمها مهلة لوقفها اذا حاولت ايران اعتماد الابتزاز، وان بايدن لن ينتظر طويلا، وخروجه من الاتفاق وارد اذا لم تلتزم ايران شروط الاتفاق، والمنظومة الباليستية، ونفوذ ايران في المنطقة الذي يهدد استقرار بعض دولها. وفي هذا الإطار، يشير شديد الى ان “من المبكر ان نجزم في الموضوع، لا اعتقد ان الاميركيين سينسحبون من مفاوضات فيينا، سيستمرون لكن بصعوبة، لأن المفاوضات تستغرق وقتاً. لكن الادارة الاميركية كما يبدو حتى الآن، ليست في وارد قبول كافة الشروط الايرانية من حيث رفع العقوبات، وخصوصا البحث في استراتيجية ايران وتمددها في المنطقة والصواريخ الباليستية الايرانية، وتحاول ان يكون هناك ثمن لرفع العقوبات، ليس فقط في النووي إنما أيضاً في القضايا الاقليمية التي لم تقبل بها ايران حتى الساعة. قد تكون هناك مماطلة او قد تستلزم مزيدا من الوقت والصعوبات في التوصل الى اتفاق لكن لا ارى ان هناك انسحاباً من فيينا”.
أما عن السياسة الاميركية في لبنان، فيؤكد شديد “ان الامور لم تتوضح بعد. لكن على لبنان ان يرصد الامور انطلاقاً من الاجتماع الثلاثي المهم الذي حصل في ايطاليا، ما بين وزراء خارجية فرنسا والولايات المتحدة والسعودية، والذي تُرجم فورا بخطوة عملية ولو متواضعة بتوجه السفيرتين الأميركية والفرنسية الى الرياض للتباحث مع السعوديين واقناعهم بمساعدة لبنان مجدداً لمنع الانهيار التام. وهذه استراتيجية توافق كل الافرقاء في المنطقة. يبدو ان الاميركيين مهتمين، لكن لم نلمس حتى الساعة نتائج. من هنا، علينا ان ننتظر لنرى كيف ستُترجم الامور عملياً وما ستكون نتائج المفاوضات التي بدأت في الرياض والتي من الممكن ان تستمر على مختلف الصعد وأهمها تأليف الحكومة ومنع الانهيار والفوضى، لأن الفوضى والانهيار لا يصبّان في مصلحة الاقليم والمجتمع الدولي. وأتوقع ان تتبلور المفاوضات السعودية الاميركية الفرنسية على مستويات اعلى. وفي إطار متصل، يعقد الفرنسيون مؤتمرا في 20 تموز لمساعدة لبنان. هناك اهتمام دولي سينصب فورا على تأليف حكومة ذات صدقية وعلى مساعدة لبنان انسانيا لمنع الانهيار التام في مؤسسات الدولة”.