كتب مايز عبيد في “نداء الوطن”:
لا أحاديث في طرابلس هذه الأيام إلا أحاديث السياسة والأمن بشقيه الغذائي والإجتماعي. لكنّ استقرار المدينة ووضعها الأمني، يتقدم على كل ما عداه؛ وبالإمكان ملاحظة ذلك من خلال التوترات الأمنية المتواصلة في المدينة بشكل شبه يومي، والإشكالات بين العائلات والأشخاص كما حصل في محلة باب الحديد قبل أيام.
السلاح في الأصل موجود بين أيدي المواطنين وإطلاق النار العبثي الذي لا ينفك يُسمع في أرجاء المدينة بين الفينة والأخرى؛ لا سيما في فترات الليل؛ واستعمال هذا السلاح أيضاً في أي اشتباك فردي يحصل، كلها ظواهر وتباشير مقلقة لأهالي المدينة.
لطالما جرى الحديث عند كل توتر أمني حصل في المدينة عن أيادٍ خفية وطابور خامس يريد إشعال طرابلس وجعلها صندوق بريد للداخل والخارج. النائب السابق مصباح الأحدب كان أوضح هذه المرّة، واتهم في تغريدة لافتة عبر حسابه على “تويتر” سياسيي المدينة بافتعال الأحداث وتسليح الناس عندما قال: “الساسة في طرابلس عوضاً عن الاهتمام بقضايا وهموم ووجع الناس، يوزعون السلاح والذخيرة من جديد لخلق الفتن وسفك الدماء وإعادة إنتاج أنفسهم”. هنا يتهم الأحدب السياسيين بالعمل على التسليح ونشر الفوضى بين الناس لإعادة تعويم أنفسهم بعدما تراجعت شعبيتهم وحضورهم منذ بداية الثورة، وعدم قدرة أي منهم على النزول إلى الشارع والتجول بين الناس، لمعاينة أوضاع أهل المدينة التي تعاني ما تعانيه من فقر وحرمان. أوساط سياسية طرابلسية اعتبرت كلام الأحدب “إتهاماً سياسياً ليس له دليل والأحدب ليس بأفضل حال من السياسيين، وهو من يحاول تعويم نفسه في مدينته بهذه التصريحات التي ينسجها من خياله لا العكس”.
تبدو أحوال طرابلس وكأنها تغلي فوق صفيح ساخن؛ فحجم الفقر والفوضى لم يعد يحتمل؛ بينما تغيب المعالجة بكل أشكالها وتترك الناس لمصيرها. سياسيون غائبون ودولة متجاهلة والغلاء يكوي الناس وانقطاع الخدمات والمستلزمات يزيد الطين بلة. يأتي كل ذلك، والحديث يتصاعد عن ظواهر تسلّح تحصل في الآونة الأخيرة، ودخول أحزاب وشخصيات عدة على الخط، لتسليح مجموعات وترك حالة الفوضى هي السائدة في المدينة، ريثما يحين موعدها. السلاح الفردي في طرابلس وعموم مناطق الشمال، منتشر بين الناس؛ وأي إشكال قد يحصل ولو على أفضلية مرور يتم فيه شهره واستعماله، بيد أن الحديث عن عمليات تسلّح جماعية هو مسألة ترددها أحاديث الصالونات وبحاجة إلى من يثبتها؛ سيما وأنها إن كانت تحصل بالفعل فهي تتم في السر، وإذا كانت موجودة بالفعل؛ فلا شك أن الأجهزة الأمنية المولجة بأمن طرابلس والشمال تكون على علم بها؛ وعليها اتخاذ القرار بالتعامل مع هذه الظواهر قبل استفحالها.
خلعت طرابلس ثوبها كعروس للثورة بعد أشهر “عسل ثوري”؛ لتجد أن ما يقارب الـ 70% من أهلها دون خط الفقر. كانت الناس تبحث عن دولة وفرص عمل ومشاريع، باتت اليوم تبحث عن حبة الدواء وتنكة البنزين وربطة الخبز وليتر المازوت وكيس الشمع ولا تجدها.
يرى الباحث والكاتب السياسي الطرابلسي شادي نشابة أنه “وفي ظل غياب الدولة عن طرابلس ومنذ فترة طويلة وحتى قبل الإنهيار، وفي ظل ما يعانيه الناس من فقر وضيق، وحالة الإستعصاء السياسي القائمة، لا وجود للدولة في طرابلس إلا عبر القوى الأمنية؛ فلا شك أن الإشكالات التي تحصل هي دليل على التوتر الإجتماعي والإنكفاء السياسي الحاصل. ومع وجود من يريد استغلال نقاط الضعف في المدينة للدخول عبرها إلى تنفيذ أجندات سياسية، فإن الحل يكون بتواجد الدولة بين أهلها وناسها في طرابلس لا سيما في الجانب الإنمائي الإجتماعي”.
يضيف نشابة: “أنا شخصياً أستغرب لماذا تأخر الإنفجار الإجتماعي في طرابلس وغيرها وفي كل لبنان. قد تكون الشرارة لهذا الإنفجار ربما من طرابلس؛ لأنها المدينة الأفقر على ساحل المتوسط، وتنعدم فيها الخدمات والتقديمات بالكامل، حتى حاجات الناس الأساسية من ماء وكهرباء ودواء.. لم تعد موجودة”.
ويعتبر نشابة أن “الظواهر الأمنية المتفلتة ستزداد في المدينة طالما الدولة غائبة عن التدخل الإجتماعي والإقتصادي، إلا عبر القوى الأمنية التي يشبه واقعها اليوم واقع الناس، وهي تعاني كما يعانون وبالتالي إمكانية التدخل لديها أصبحت محدودة.. الكيان كله مهدد والوضع بحاجة إلى معجزة لإخراج اللبنانيين من هذا الدرك الذي وضعوا فيه.. نحن نتمنى ألا تحصل أي توترات في المناطق اللبنانية، ولكن في النهاية كل هذا الضغط وغياب الدولة وفقدان أبسط مقومات الحياة لدى الناس؛ لا بد أن ينتج عنه انفجار اجتماعي وشيك وبالطبع سيكون هناك من يستغل هذه التحركات في أجنداته المحلية والإقليمية”.
مما لا شك فيه أن كمية الرصاص الذي يلعلع في سماء طرابلس؛ لا سيما في ليلها لا يبشّر بخير؛ بل ويستدعي أن يُطرح التساؤل المشروع: من أين يأتي فقراء المدينة بهذا السلاح وهذا الرصاص ليطلقوه بسبب أو من دون سبب؛ لا سيما في هذه الظروف الصعبة، وقد ارتفعت أسعار الأسلحة والذخائر بشكل جنوني؟!. من يطلق هذه التساؤلات يعود ليجيب نفسه بنفسه: يبدو أن هناك من يعمل على التسليح وتوزيع السلاح ونشره بين أهالي الأحياء الشعبية، ولكن ما هي الغاية؟ دائماً كانت طرابلس تسمّى الخاصرة الرخوة؛ ولطالما اعتبرت صندوق بريد وقنبلة موقوتة لأي انفجار أمني عندما تتأزم الأمور في السياسة.
لو اطّلعت على سريرة الناس في هذه المدينة لوجدتهم أقرب ما يكون إلى الدولة وأكثر من ينادي بحضور الدولة في ربوعهم. لكن الدولة ليست فقط جيشاً وقوى أمنية، الدولة أيضاً وزارات، وخدمات، ومشاريع وعمران وبنى تحتية؛ وفرص عمل. غير أن هذه المدينة لا ترى الدولة ولا تراها الدولة إلا من الناحية الأمنية فقط؛ وأما في باقي النواحي فلا شيء يشير الى أن الدولة مرت من هنا !. حال طرابلس ومناطق الأطراف مع الدولة اللبنانية، مزمنة من حيث التجاهل والإعراض؛ وسياسيو طرابلس والشمال لم يفلحوا جميعاً في احتضان الناس حول مشروع الدولة لأن مشاريعهم الخاصة احتلت الأولوية. فإذا ما شعرت الدولة بأن طرابلس كالولد العاق فلا تلومنّ الدولة إلا نفسها.