كتب طوني كرم في “نداء الوطن”:
أراضٍ إستملكت، أشجار قُطعت، جبال شوِّهت، دهاليز حُفرت، دراسات رُميَت، ملايين هُدرت من أجل إنشاء سدٍّ قيل فيه أنه أكبر مشروع إنمائي تنفذه الدولة قبل أن يطيح الإنهيار المالي بميزانيّته ويحوّل “جنّة قرطبا” موقع السدّ إلى لوحة طبيعيّة من الدمار لأجلٍ غير مسمّى… فهل من يبادر إلى “إنقاذ” المشروع أو الحدّ من الخسائر التي تسبب بها في ظل تقاعس المسؤولين عن الإهتمام بالبشر قبل الطلب منهم الإهتمام بالحجر؟
مخاض عسير استغرقه مشروع إنشاء سدّ جنّة الذي وُضعت دراسته الأولية في العام 1945، ليسلك دهاليز التنفيذ في العام 2013 من ضمن منظومة السدود الثمانية التي أطلقها الوزير جبران باسيل في نيسان 2009، إلى جانب بسري وبقعاتا والمسيلحة وبلعا واليمونة والعاصي والقيسماني، على أن يؤمن السدّ ما يقارب 38 مليون متر مكعب من مياه الشفّة والري لبيروت وجبل لبنان، بكلفة إجماليّة تقارب 315 مليون دولار أميركي (لإنشاء السدّ)، وسط تضارب في التقارير العلميّة والبيئية المشجعة والمحذرة من المشروع، والتي أخذت سريعاً منعطفاً سياسياً أخرجت النقاش عن مساره السليم ليدخل في سياق التجاذبات السياسيّة والطائفيّة بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل، تمكن يومها الوزير جبران باسيل من كسب جولة في الصراع، ونقل ملف السدّ من مديرية الموارد المائية والكهربائية في وزارة الطاقة عام 2008 إلى مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان مخالفاً المادة 282 من قانون المياه وقانون انشاء وزارة الطاقة، ويعهد إلى المؤسسة تمويل السدّ من الإحتياطي الخاص بها بحجة تأمين المياه للعاصمة وبعض مناطق جبل لبنان بعيداً عن محاولة الحصول على قرضٍ دولي، متحرراً بذلك من المرور عبر مجلس الإنماء والإعمار الذراع الإنمائي لرئاسة الحكومة، والجهات الرقابيّة الأخرى.
بين الدراسات والتنفيذ
رست مناقصة بناء السدّ في كانون الأول 2013 على الشركة البرازيليّة “أندرادي جوتييريز – Andrade Gutierrez”، المتعهدة أعمال الحفر وتنفيذ الأشغال بقيمة 257 مليون دولار تقريباً (لتعذر الوصول إلى العقد)، بمدة لا تتجاوز 48 شهراً، تمكنت خلالها من إنجاز الأعمال الأساسيّة من تدمير الثروة البيئيّة وقطع الأشجار والقيام بالحفريات والأنفاق المطلوبة من أجل تشييد السدّ، قبل أن تبتلع الصخور الكارستيّة الملايين من دولارات صرفت برخاء في محاولة لتدعيم الأساسات المطلوبة للجدار Grounting على عمق 60 متراً من مستوى النهر قبل الإنتقال إلى مرحلة البناء.
التقارير العلميّة حذرت من طبيعة الصخور الكارستيّة التي تؤدي إلى تسرّب المياه، لكن المفارقة أنّ حجم التسربات الباطنيّة تحدُّ من قدرة الشركة على تثبيت الركائز الأوليّة للبدء في مرحلة تشييد الحائط الذي كان متوقعاً الإنتهاء منه في العام 2019، قبل أن يجتاح وباء كورونا العالم ويعصف الإنهيار المالي في لبنان، فيطيحان بما تبقى من آمال على إتمام المشروع الممول بالعملة الوطنيّة، لتنضم المشاريع الإنمائية التي تنفذها المؤسسات الرسميّة ومنها سدّ جنّة، إلى لائحة الإنهيارات التي تشهدها القطاعات الإستشفائية والسياحيّة والصناعيّة والتربوية…
المدير يؤكد ولكن!
وفي متابعة لمسار الأعمال في موقع السدّ، أكّد المدير العام لمؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان المهندس جان جبران، عدم توقف المشروع، مشيراً إلى أن التحديات التي يواجهونها لا تقتصر فقط على إتمام الأعمال في سدّ جنّة، إنما على كافة المشاريع التي تقوم بها المؤسسة كون المتعهدين يجدون صعوبة في إكمال المشاريع والتعهدات الممولة بالعملة الوطنيّة، مؤكداً في الوقت نفسه قيامه بكافة الإتصالات مع المعنيين من أجل تأمين المداخيل الضرورية لصمود المؤسسة وإتمام المشاريع التي تقوم بها في هذه الظروف الصعبة التي لا تستثني أحداً، وعن التحديات التي تواجه استكمال تنفيذ مشروع السدّ، أشار إلى أنها كانت محور اللقاء الذي حصل في بعبدا في 8 حزيران، في حضور وزير الطاقة ريمون غجر ووفد من لجنة متابعة تنفيذ السدّ، عرض خلاله المجتمعون الصعوبات التي تواجه استكمال تنفيذ المشروع من مختلف النواحي.
وفي السياق، أوضح عضو اللجنة المهندس زياد زخّور، أن الفريق التنفيذي تمكن من الوصول إلى الطبقة الصخريّة على عمق 60 متراً في باطن الأرض، بعد الإنتهاء من أعمال حفر الأنفاق وتدعيمها والعمل الأساسي اليوم يقوم بالمحافظة على الأساسات مجففة ومنع وصول المياه إليها، تمهيداً لإطلاق مرحلة بناء الحائط الذي سيبلغ إرتفاعه عن مجرى النهر 160 متراً، بعد تأمين تكاليف المواد الأوليّة المستوردة التي تسدد قيمتها في الدولار النقدي غير المتوافر، ما دفع الشركة المتعهدة إلى تقليص طاقمها الهندسي، لتصبح الميزانيّة المرصودة للسدّ على سعر صرف 1500 ليرة لا تكفي لتأمين أبسط التكاليف التشغيليّة لحماية الأعمال التي تمّ إنجازها. وعن الأضرار التي قد تلحق بالأعمال في ظل غياب آفاق للحلول الماليّة، أشار زخور إلى أن الأضرار من الناحيّة الهندسيّة ستكون كارثيّة في حال توقف الأعمال عند هذا الحدّ، داعياً إلى تأمين ما يقارب الـ 40 مليون دولار من أجل إنهاء الأعمال الباطنيّة وبناء الأساسات وصولاً إلى مستوى النهر، والحدّ من إستنزاف المصاريف في حماية الإنشاءات على حالها.
وأمام هذا الواقع نسأل عن سبل للحدّ من الأضرار التي وقعت في منطقة السدّ، لنصل سريعاً وعبر أكثر من جهة إلى أن الأمر يتطلب حكومة تأخذ على عاتقها تقييم المراحل التي وصل إليها المشروع وإتخاذ القرار المناسب، ما يعني أنّ مشروع السدّ سيدخل مجدداً مادة دسمة على طبق الصراع بين القوى السياسيّة، بعد أُفول حكومة “اللا قرار” التي لا تقوم بأبسط واجباتها في تأمين مقومات الصمود الإجتماعي والصحي والغذائي والإستشفائي والتي لا يمكن الطلب منها تقديم الحلول للمشاريع الإنمائية وإنقاذ الحجر في ظل تقاعصها عن إنقاذ البشر.
مختار قرقريا: لحسم موضوع الإستملاكات
وعن واقع المنطقة، يوضح مختار “قرقريا” المنطقة الملاصقة لموقع السدّ هيثم الحج حسن أنّ الأعمال في السدّ حولت المنطقة إلى رقعة حفريات كبيرة، وتوقف المشروع سيشكل خسارة مضاعفة لأبناء المنطقة الذين خسروا أراضيهم والسدّ معاً، ودعا المسؤولين عن المشروع إلى حسم موضوع إستملاك العقارات الملاصقة، وعدم رمي الإتهامات جزافاً على أبناء القرى المجاورة من أجل تبرير التكاليف الباهظة التي تهدر من الميزانيّة المرصودة للمشروع.
وأمام الأضرار البيئيّة التي خلفها المشروع، تنظر الحركة البيئيّة إلى وقف الأعمال في مشروع السدّ بسبب الأوضاع المالية المستجدة بعين من الأمل والدعاء من أجل أن تتوقف الأضرار عند هذا الحدّ، لأن المخاطر المرتبطة بالسدّ عند إنتهائه تفوق أضرار الحفريات والأعمال التي تم انجازها حتى اليوم، ليؤكد رئيس الحركة بول أبي راشد لـ “نداء الوطن” إستحالة الحصول على قرض من البنك الدولي والجهات الدوليّة المانحة، لأن التمويل الدولي يجب أن يترافق مع دراسات علميّة وبيئيّة مؤيدة لتنفيذ المشروع خلافاً للدراسات المرتبطة بسدّ جنة والتي دعت إلى البحث عن مصادر أخرى من أجل تأمين المياه، ومنها الدراسة التي قدمها المهندس ألكسندر سرسق المتخصص في علم الزلازل والهزات الأرضيّة في المركز الوطني للبحوث العلميّة، والتي حذرت من خطر السدّ الذي يقام في منطقة مجاورة لفالق اليمونة ومتفرعاته ما سيؤدي بالمياه المتسربة في الفوالق الى القيام بعمليّة “التمييع” Lubrification، ما يؤدي حتماً إلى حدوث هزات أرضيّة مدمرة.
وتعزز الدراسة الصادرة عن المعهد الألماني لعلوم الأرض والموارد الطبيعيّة (BGR)، الجهة المكلفة من الحكومة الألمانيّة التعاون التقني مع لبنان في موضوع المياه في حزيران 2012، من مخاطر التسرب المائي الهائلة في موقع السد والتي تتراوح بين 35 و52 في المائة، لتصل في بعض مناطق السد إلى مائة في المائة، مشيرةً إلى أن التخزين الفعلي لسد جنة سيتراوح بين 7 و8 ملايين متر مكعب فقط، وليس 30 مليون متر مكعب كما هو مُعلن، لأن طبيعة الأرض الكارستيّة المتشققة تسمح بتسرّب المياه عبر الصخور بسهولة، بسبب تآكل الفتحات والمسارب الصخرية على مرّ الزمن لتشكل ممرات للمياه يتراوح قطرها بين ميللميترات قليلة وأمتار عدة غير ملحوظة للعيان بل في قلب الطبقات الصخرية، ما يفسّر اليوم الأعباء التي تتكبدها الجهة المتعهدة تنفيذ المشروع لإقفال التسربات والبدء في بناء جدار السدّ الأعلى في الشرق الأوسط (160 متراً)، قبل الإنتقال إلى المرحلة المستحيلة وإقفال التسربات في الحوض الذي دونها العديد من المخاطر على الينابيع المجاورة.
لتضيء الدراسة البيئيّة التي أعدتها شركة “جيكوم” بإشراف المهندس أنطوان سلامة، على مخاطر السدّ على النظام الإيكولوجي والثقافي والتنوع البيولوجي، إضافة إلى إمكانية حدوث تدهور بيئي في وادي نهر ابراهيم الموضوع على لائحة التراث العالمي، الفريد من نوعه، ليس في لبنان فقط، بل في كل منطقة حوض البحر المتوسط، كأهم موقع للتراث الفينيقي، خصوصاً أنه يضم ممراً اسمه الممر الفينيق، ما دفع وزير البيئة محمد المشنوق (2015) إلى رفض المشروع نظراً إلى الكلفة العاليّة للأضرار التي تضمنتها دراسة تقييم الأثر البيئي. دراسات نفضت الحركة البيئية الغبار عنها بعد إكتساب خبرة ميدانيّة في مقاربة ملف السدود لتتوجه متسلحةً إلى الجهات المانحة لوقف أي محاولة للحصول على تمويل خارجي من أجل إستكماله.
وأمام هذا الواقع، وفي ظل إستعصاء الحلول السياسيّة الماليّة المطلوبة في الأمد القريب، هل ستقاضي الجهة المتعهدة تنفيذ المشروع الدولة اللبنانيّة وإلزامها على دفع الملايين لتلكؤها عن الإيفاء بإلتزاماتها مع الشركة المتعهدة؟ التأخير الإداري كلفّ المؤسسة التعويض للشركة البرازيليّة المتعهدة وشركائها المحليّين ما يفوق الـ 10 ملايين دولار، وثمة ملف تحقيق داخلي في وزارة الطاقة وآخر بين يدي المدعي العام المالي علي ابراهيم الذي استدعى جان جبران إلى التحقيق، عدا التعويضات فكم من الملايين ستدفع عند فسخ العقد؟
وهل يبادر المعنيون إلى إبعاد الخلافات السلطوية والبحث جدياً في وضع حدّ “للمجزرة” البيئية التي قضت على منطقة وادي جنّة وتحرير المشروع من دهاليز السياسة والتنفيعات وإستصلاح ما تدمّر عبر إنشاء “سدّ سياحي” لا يتعدى إرتفاعه بضعة أمتار يضع حدّاً للخسائر الماديّة بعد أن أثبتت السدود الأخرى عدم قدرتها على تخزين المياه بسبب طبيعة الصخور في جبل لبنان، وإعادة إحياء المنطقة وإستثمار الأراضي المستملكة لصالح السدّ من أجل إستقطاب المشاريع الزراعيّة والسياحيّة والإنمائية وتحويل إراداتهم لما يخدم إستمرارية عمل المؤسسة عبر تأمين المياه من مصادر أخرى، أم أنّ “الكيديات” السياسيّة ستكرس مقولة “جهنّم السدود”؟.