أمضى الرئيس المكلف سعد الحريري أيامه حائرا بين اعتذار هو أقرب إليه وإصرار على التكليف بحكم ميزان القوى. الحريري حين قرر العودة إلى رئاسة الحكومة إنما أراد العودة إلى الخريطة السياسية بقوة، لينطلق منها فارضا نفسه كرئيس لحكومة لبنان أمام الرأي العام الخارجي. سمع النصائح ونال وعودا تلو أخرى. تبنته فرنسا دوليا ومصر عربيا وكان له عرابه الداخلي رئيس مجلس النواب نبيه بري وحزب الله ضمنا. ولكنه لم يكن يتصور أو ينتظر أن يصبح تكليفه مقيدا ومطوقا بحسابات وتعقيدات.
الاعتقاد السائد اليوم أن الرئيس الحريري يعد العدة لتبرير اعتذاره عن تشكيل الحكومة، في ضوء حركة الاتصالات الدولية والعربية، وحيث لم يلمس وجود أي تغيير في الموقف العربي تجاه مباركة توليه الحكومة الجديدة، ولهذا اختار زيارة القاهرة، كمحطة أخيرة قبل الإعلان عن خطوته، حيث سيبلغ الرئيس عبدالفتاح السيسي بوصول جهوده إلى حائط مسدود بفعل عدم تجاوب الرئيس ميشال عون مع مقتضيات الدستور، واستغلال توقيعه للاعتداء على موقع رئاسة الحكومة. ومن المتوقع أن يعود إلى بيروت لرفع تشكيلة حكومية من 24 وزيرا إلى عون، ليرفضها أو يقبلها من دون نقاش، وبعدها سيخرج لتلاوة بيان الاعتذار من دون الاتفاق على بديل يخلفه في تشكيل الحكومة المقبلة، حيث جرى الاتفاق مع رؤساء الحكومة السابقين على عدم منح العهد أي غطاء لأي حكومة جديدة. ووفقا لأوساط سياسية مطلعة، تفضل القاهرة أن يتريث الحريري في خطوته أقله لعدم دفع البلاد إلى المجهول في ظل غياب التفاهمات على اليوم التالي.
لم يقفل الحريري الأبواب أمام «الثنائي الشيعي» ووعد بدراسة مسألة الخلف، وفي الوقت نفسه فرمل لأسابيع اندفاعته للاعتذار، موقتا، وهو اتخذ قرارا بالتريث ليس بانتظار وضوح طبيعة التحرك الفرنسي ـ الأميركي باتجاه الرياض، لكنه يدرس إمكانية رمي الكرة مرة جديدة في ملعب رئاسة الجمهورية من خلال تقديم تشكيلة من 24 وزيرا، وبعدها سيحصل الاعتذار.
ويعتبر الحريري أن الفريق السياسي لرئيس الجمهورية معني بتحمل مسؤولية وتداعيات إفشاله في تشكيل الحكومة، ولهذا يجد نفسه غير معني بتأمين غطاء لأي مرشح، وهو لن يقبل بأن يكون رافعة للعهد في أشهره الأخيرة. هذا الموقف استدعى حراكا مكثفا من «الثنائي الشيعي» لمحاولة إيجاد قواسم مشتركة يمكن البناء عليها كي لا يكون الاعتذار قفزة في المجهول. وعلم في هذا الصدد أن الحريري يرفض حتى الآن بالتضامن والتكافل مع رؤساء الحكومات السابقين طرح بديل لتشكيل الحكومة الجديدة، وهو أبلغ المعنيين بالاتصالات انه ليس مضطرا للدخول في هذه «المعمعة» العقيمة لأنه لن يستطيع القبول بأقل ما كان يطلبه لنفسه، وهذا يعني العودة إلى نقطة الصفر.
الرئيس نبيه بري يتعامل مع مسألة الاعتذار وكأنها معركته الشخصية في مواجهة الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل، بحيث إنه يعتبر أن أي اعتذار من قبل الحريري يعد نكسة بالنسبة له وانتصارا لثنائي العهد، لذلك، بطبيعة الحال هو لا يريد أن يشكل اعتذار الحريري نوعا من هزيمة له، خصوصا أنه سيكون لهذا الاعتذار متمماته على المسرح الوطني في حال لم ينجز الاتفاق مسبقا على من يخلف الحريري وعلى شكل الحكومة وطبيعتها.
ونقلت الأوساط عن مصادر مقربة من بري تأكيدها أن الاعتذار لن يبدل الأزمة الحكومية أبدا. ولدى سؤالها عما سيتبدل على مستوى الحصص والتوازنات التي يريدها عون داخل الحكومة في حال لم يكن الرئيس الحريري هو الرئيس المكلف تشكيل الحكومة؟ تعتبر مصادر بري، أننا سنعود إلى المربع نفسه مع أي رئيس آخر، طالما أن العهد متمسك بموضوع الثلث المعطل.
وأشارت إلى أن البحث يتركز اليوم في خيارين:
٭ الأول: ألا يعتذر الحريري وأن يبقى متمسكا بموقفه، على الرغم من الضغوط الهائلة عليه من قبل الشارع في ظل التراجع المالي، أو جراء المسعى الدولي لتشكيل حكومة في لبنان، مع العلم أنه لا يريد أن يصور نفسه على أنه حجر عثرة أمام ولادة الحكومة، بغض النظر عن أن من يتحمل مسؤولية عدم التأليف هو العهد، بفعل الشروط التي يضعها.
٭ الثاني: أن أي اعتذار من قبل الحريري يجب أن يكون مسبقا باتفاق على رزمة كاملة لتحاشي أن تكون هناك حساسية شخصية ما بين العهد والرئيس المكلف الجديد، أو اعتبارات سياسية أخرى لها علاقة بأن الحريري هو حليف بري ووليد جنبلاط، اللذين لديهما مرشح رئاسي وهو الوزير السابق سليمان فرنجية.
أما بالنسبة لمدى إمكانية ولادة اتفاق من هذا النوع، يشكل بديلا ومخرجا لسعد الحريري على قاعدة حكومة انتخابات تشكل بالحد الأدنى غطاء له في عبوره من مرحلة التكليف إلى مرحلة الاعتذار، خصوصا لناحية أن رئيسها ستتم تسميته من بيت الوسط، أوضحت الأوساط، أنه من خلال إبرام اتفاق مماثل يمكن للحريري أن يقول داخل بيئته أن سبب اعتذاره هو أن الحكومة المراد تشكيلها هي حكومة انتخابات وليست إنقاذية، وبالتالي، لا داعي لأن يكون هو على رأسها، واعتذاره ليس انتصارا أبدا للفريق الآخر، وإنما مجرد تموضع جديد.
مرجع سياسي سنّي شبه مرحلة «ما بعد الاعتذار»، إذا حصل، بمقولة «رب يوم بكيت منه، فلما صرت في غيره بكيت عليه»، متسائلا عن هوية المتطوع الجديد الذي باستطاعته تأليف حكومة وفق المواصفات المطلوبة. ويقول ان موقف رؤساء الحكومات الثلاثة متخذ لجهة عدم تسمية أحد من جهة، والاتجاه إلى عدم القبول بأي تكليف شخصي من جهة ثانية، باعتبار أنه لا يمكن للرؤساء التخلي عن الشروط الدستورية المرتبطة بعملية التأليف.
ويعبر المرجع عن قناعة راسخة لديه بأن أي تكليف جديد يأتي على منوال الواقع الحالي في الصراع الناشب بين القوى السياسية حول موضوع الحكومة، لن يحظى بأي دعم محلي أو عربي أو دولي. ويؤكد أن هناك خيارين لا ثالث لهما أمام كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف: إما أن تتألف حكومة تولد ميتة في حال عمدت إلى إرضاء القوى السياسية، وإما أن تتألف حكومة على أساس ما يسمى المبادرة الفرنسية من خلال اختيار شخصيات مستقلة وغير حزبية من أصحاب الكفايات وتعمل على تحقيق الإصلاحات بما يرضي اللبنانيين أولا، ويحقق رضى المجتمعين العربي والدولي تاليا.
ويستنتج أنه في حال برز متطوع جديد للتأليف، يقبل بشرط تحالف العهد ـ حزب الله، فعندها سيكون الاتجاه إلى نموذج أكثر سوءا من تجربة حكومة حسان دياب.
وتقول أوساط قريبة من بيت الوسط إن اعتذار الرئيس الحريري عن تشكيل الحكومة، إن حصل الآن أو في أي وقت كان، لن يؤدي إلى حل أزمة تشكيل الحكومة أو متفرعاتها، مع وجود سببين رئيسيين يتحكمان بعملية تشكيل الحكومة الجديدة:
٭ الأول استمرار ربط حزب الله عملية التشكيل وولادة الحكومة العتيدة بالكامل بالأوراق التي تمتلكها إيران في التفاوض على الملف النووي مع الولايات المتحدة الأميركية، برغم كل محاولات التهرب وإخفاء هذه الخطوة.
٭ الثاني الذي يطغى ظاهريا أمام الرأي العام للتغطية على السبب الأول، وهو محاولة باسيل الإمساك بمفاصل أي حكومة تتألف، تحت عناوين وذرائع كاذبة ومتعددة، لإعادة تعويم نفسه من العقوبات الخارجية المفروضة عليه واستنهاض وضعيته السياسية والشعبية. وبالتالي، فإن أي شخصية، سياسية أو غيرها، تكلف بتشكيل الحكومة الجديدة، مع استمرار هذين السببين، ستواجه بأساليب العرقلة والتعطيل الممنهج نفسها ولو بأشكال مختلفة، وبالتالي، لن تستطيع تأليف حكومة قادرة على الانفتاح بالداخل والخارج، للمباشرة بحل الأزمة المالية والاقتصادية التي يواجهها لبنان. وإزاء هذا الواقع، سيؤدي إقدام الرئيس المكلف على الاعتذار، إلى استفحال المشكل نحو الأسوأ وتدهور الأوضاع بشكل غير مسبوق.