كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
منذ أن تبنّى البعض عدداً من الانجازات الوهمية التي أعطيت أوصافاً إلهية بعد حرب تموز 2006 وأخرى تاريخية بعد تجاوز لبنان الأزمة المالية الدولية عام 2008، قدّم اللبنانيون نموذجاً عن اكبر دولة فاشلة بُنيت من جدران «بيت العنكبوت» في اقل من سنتين تبخّرت فيها الادعاءات بالحديث عن قطاع مصرفي متين وخدمات عامة جاءت بالرساميل الأجنبية، وبدل تعميم الضوء حَلّت العتمة في قلوب اللبنانيين قبل بيوتهم. وعليه، ما هو المتوقع؟
لم يكن الحديث ليتشعّب بالعودة إلى تطورات العقدين الماضيين لو انّ ما هو متوقع مقدّر ومحتمل، بالمفاجآت خلف الأبواب والنزاعات الإقليمية والدولية ألقت بثقلها مجدداً على تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية بعدما أنجزت مختلف الإستحقاقات التي جددت السلطة في الولايات المتحدة الاميركية وايران وبعض العواصم المعنية بالملف اللبناني مباشرة او بطريقة غير مباشرة.
هكذا، وبكل بساطة، أدخل لبنان مجدداً في انفاق مشاريع التفاهمات الدولية الجارية في فيينا حول الملف النووي الإيراني وعلاقات واشنطن بطهران ومفاوضات بغداد بين طهران والرياض، وبات يعيش على فالق أيّ اهتزاز يصيبها. وهكذا عبرت فترة السماح التي كانت سانحة امام اللبنانيين للنفاذ بتفاهمات داخلية على إعادة تركيب السلطة وانتظام العلاقة بين السلطات التي كانت ممكنة لولا حرب المواقع والصلاحيات التي خاضَها الأقطاب.
وزاد في الطين بلة عندما استقطبت المواجهة اصطفافات داخلية حادة جعلت أي تفاهم على نقاط مشتركة أمراً مستحيلاً على رغم من اعتراف الجميع بكلفتها الباهظة لمجرد انها تجاهلت المصالح العامة وانحصرت بالمصالح الخاصة منها. فكانت النتيجة الحتمية تهاوي الوساطات الداخلية والخارجية واحدة بعد أخرى لأسباب داخلية وخارجية متعددة تَحكّمت بالمواقف، الى درجة عدم قدرة أحد على التراجع عنها منعاً للسقوط في لعبة الخسائر بانتصار فريق على آخر وهو ما لا تحتمله التوازنات الداخلية الدقيقة والهشّة.
وفي انتظار معرفة ما سترسو عليه الاتصالات الجارية على أكثر من مستوى، والتي بلغت الذروة في الساعات القليلة الماضية نتيجة المبادرة الجديدة التي قادها الثلاثي الأميركي ـ الفرنسي ـ السعودي الجديد في مواجهة ما بلغته الازمة المالية والنقدية والاجتماعية وانعكاساتها على معيشة اللبنانيين. يُضاف إليها ضرورة التثبت ممّا سيؤدي اليه التدخل الروسي قبل أيام وما يمكن ان تكون قد انتهت اليه اتصالات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وجهوده الرامية الى معالجة الملاحظات السعودية على كل ما يجري على الساحة اللبنانية. فما استجَدّ كان كافياً لرفع وتيرة الاتصالات الجارية ساعة بعد ساعة لمعالجة أزمة كيانية بدأت تعصف بوحدة الدولة ومؤسساتها والمخاطر المتأتية من مظاهر انهيار الخدمات العامة.
ولا تتجاهل المنتديات السياسية والديبلوماسية التي تناقش هذه المستجدات ما تسبّبت به التحركات الداخلية على وقع الازمة النقدية بوجوهها المختلفة مع ما تركته استدعاءات المحقق العدلي في جريمة تفجير المرفأ مع اقتراب الذكرى السنوية الاولى في 4 آب المقبل وتفاعلات «كورونا الهندية» التي عادت لتشغل بال اللبنانيين مخافة تأثير الموجة الجديدة على الحركة التي ما زالت في بداية استعادة نشاطها الداخلي، وهو ما زاد من صعوبة المواجهة بحثاً عن مخرج يفتح المجال للخطوة الحكومية الاولى التي لا بد منها على الطريق الطويل الى مرحلة التعافي والإنقاذ، إن كان ذلك ممكناً للجم الانهيارات المتتالية.
وبناء على كل ما تقدم، ينصح المراقبون بضرورة مواكبة الحراك الدولي الناشط الذي لم يحظ به لبنان من قبل، لعله يفضي الى لحظة انفراج ينتظرها اللبنانيون منذ فترة طويلة ولم تتحقق رغم صعوبة التكهّن بذلك. فأركان السلطة يتوجّسون من كل حراك خارجي مخافة ان يترجم على حسابهم وقد تجاوزت الانتقادات الدولية والأممية ما هو مرفوض، وربما محظور، في اي دولة في العالم. ولكن المأساة الحقيقية تكمن في انّ المعنيين اعتادوا الاهانات الداخلية والخارجية ووجدوا لها تبريراً برفع المسؤولية عن أكتافهم ورميها على الآخرين في لعبة مكشوفة تشهد لها الاندية الديبلوماسية التي تحتفظ بأسرار لا يمكن البوح بها في هذه المرحلة.
والأخطر، إن استمر المسؤولون الذين يقودون حرباً داخلية بلا هوادة في تجاهل التحذيرات الدولية ممّا هو أسوأ، وما لم يتوقفوا عن تَفنّنهم في مواجهتها تارة بالترحيب بها وأخرى برفضها بحجج مختلفة في محاولة لإلقاء اللوم على الآخرين. والأسوأ أنهم لا يريدون الاعتراف بأنّ العالم لم يعد يفصل في ما بينهم، فهم على لائحة المعرّضين للعقوبات المتوقع صدور مزيد منها دفعة واحدة وبتهمة موحدة، عدا عن شهادات الإدانة التي صدرت وتلك المنتظرة من مراجع أممية وديبلوماسية على أرفع مستوى. من دون أن ننسى تلك التي تحدثت عنها مؤسسات التصنيف المالية والإنسانية التي وضعت لبنان في آخر لوائح الدول في مجالات عدة، لا سيما منها تلك التي تقيس بموازينها معدلات الفساد والإفساد والفشل في إدارة الشأن العام وتحقيق ما يستحقه أي إنسان في الخمس الأول من القرن الواحد والعشرين.
على هذه الخلفيات، وأيّاً كانت النتائج التي سيفضي اليها الحراك الدولي والإقليمي السريع في الساعات المقبلة، فهي تترنّح بين خيارات قليلة وأهمها اثنان:
– إعتذار الرئيس المكلف عن مهمة التأليف في الساعات الـ 24 التي تلي تقديم تشكيلة حكومية «مفخخة» يرفضها رئيس الجمهورية. فالصيغة المعرّضة لهذا السيناريو ستكون بالمواصفات التي تم التفاهم في شأنها بين الحريري وبري ومعهما اكثر من طرف، وهي تترجم ما يصرّ عليه الرئيس المكلف على رغم من علمه المسبق برفضها وهي تتصل ببعض الحقائب والأسماء.
– قد يعود الحريري من لقاءات القاهرة بمعطيات جديدة تغيّر في مجريات ما هو متوقع حتى اليوم، فالرئيس المصري تعهّد بتذليل بعض العقبات وتوفير بعض الضمانات التي يمكن الحريري ان يسترشد بها للمضي في مهمة التأليف ولكن العقدة ستكون في المقلب الآخر ما لم تتلاقى الإرادات من حولها.
وتبقى نافذة الامل الوحيدة أن تتلاقى الإرادات كافة على توفير فرصة اخيرة للبنان بعيداً من مساحة الجحيم التي سيدخلها البلد. وعندها تتوحّد النصائح الموجهة الى جميع القادة اللبنانيين بعدم لجوء اي منهم الى إعلان انتصاره أيّاً كانت النتائج. فالبلد بات قائماً من «خيوط العنكبوت»، وأيّ رهان على دور له في المرحلة المقبلة معطّل سلفاً الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.