كتب علي شندب في “اللواء”:
باختصار ووضوح شديد، اعتذر سعد الحريري عن الاستمرار في تشكيل الحكومة. فلقد اصطدمت تشكيلته بتعديلات جوهرية حاول رئيس الجمهورية ميشال عون فرضها. وعندما عرض عليه الحريري وقتاً إضافياً أجابه عون: لن نستطيع التوافق.
اعتذار الحريري عمّق من حجم الإنسداد السياسي المُمسك بعنق تشكيل الحكومة اللبنانية، في لبنان الذي تعصف به رياح الإنهيارات المتناسلة إقتصادياً، مالياً، غذائياً، دوائياً، إستشفائياً، كهربائياً ونفطياً، ربطاً بتداعيات ملف التحقيق بإنفجار مرفأ بيروت والإحتجاجات العنيفة التي نالت من وزير الداخلية محمد فهمي، على خلفية رفضه منح إذن الملاحقة القضائية ضد مدير الأمن العام اللواء عباس ابراهيم. رغم أن البيان الرئاسي المصري الذي أعقب زيارة الرئيس المكلّف سعد الحريري الى القاهرة، شكّل نقطة تحوّل بارزة في موقف مصر تجاه الوضع المأزوم في جمهورية الأشلاء اللبنانية.
مسار الموقف المصري أخذ منحى تصاعدياً في تظهير الإهتمام بلبنان. نقطة التحوّل البارزة كانت في زيارة وزير خارجية مصر سامح شكري لبنان منذ ثلاثة أشهر. وقد عكس يومها أداء شكري في بيروت تمايزاً بل تبايناً عن الموقف الفرنسي الذي كان في تلك اللحظة ولم يزل منخرطاً في حوارات ودّية مع حزب الله، وجهود جدّية لم تنجح في جمع طرفي حرب الإلغاء الجدد سعد الحريري وجبران باسيل بضيافة ماكرون في باريس. ويومها أقصى شكري من برنامج زيارته أي لقاء أو تواصل مع حزب الله وذراعه المسيحي التيار الوطني الحر.
ولعلّ البيان الرئاسي المصري، الذي صيغت مفرداته بعناية متقنة حملت الكثير من الرسائل السياسية غير المشفّرة التي عملت القاهرة على تخصيبها مع عدة عواصم عربية أجنبية، وقرّرت أن تطلقها قبيل تقديم الحريري لتشكيلته الحكومية، ليكون لها ما بعدها خصوصا في حال اعتذار الحريري الذي لن يحمل للبنان الا مزيداً من التعقيدات التي ستزيد الإستعصاء إستعصاء.
وبالعودة الى البيان الرئاسي المصري. فقد كان لافتاً أن يعنون البيان بعبارة «السيد الرئيس يؤكد دعم مصر الكامل للمسار السياسي للسيد الحريري من أجل استعادة الاستقرار في لبنان». ولعلّ العنوان الطويل يعكس الرسالة الأساسية لموقف مصر الملتزم بدعم الحريري في مساره السياسي في تشكيل الحكومة، أو خارجها. ما يعني أن مصر غادرت مربع الإنكفاء عن لبنان كما وعن ملفات إقليمية كثيرة، رغم إنشغالها السوبر إستراتيجي بتطورات ملف سدّ النهضة التي يبدو أن مصر والسودان سيعتمدان الكي كعلاج أخير لمعضلة السدّ الأثيوبي.
موقف مصر تجاه لبنان مرتبط بالعلاقات التاريخية، تماماً كما هو مرتبط بالأمن القومي العربي. إنّه الأمن القومي الذي استشعرت مصر إهتزازه نتيجة تغوّل القوات التركية ومرتزقتها من السوريين الموالين لها في ليبيا، فعمدت الى رفع البطاقة الحمراء في وجه الأردوغان الذي توقف تغوّله شرقي وجنوبي ليبيا لحظة إعلان السيسي مدينتي سرت والجفرة، خطاً أحمر للأمن القومي العربي والمصري.
هو نفسه الأمن القومي الذي تستشعر مصر إهتزازه في لبنان كما صرّح سامح شكري خلال زيارته بيروت، وبالتالي كان لا بدّ لخطّ مصر الأحمر أن يستطلع لبنان، خصوصاً في ضوء التقارير التي تتحدث عن نمو منفوخ لنفوذ تركيا في شمال لبنان خاصة. مع عدم إغفال أن اللاسياسات العربية تجاه لبنان، أنتجت فراغاً كبيراً يسيل لُعاب تركيا لملئه، بذات الكيفية التي سهلت لإيران تغوّلها فيه حتى شارفت على بلعه.
إنه التغوّل الذي قوّض مروراً باغتيال رفيق الحريري، جهود الرعايات الأخوية التي استثمرت عبر اتفاق الطائف في إعادة ترميم الصيغة اللبنانية أكثر من النظام السياسي. وكانت المملكة العربية السعودية بوصفها الراعي ما قبل الأول لإتفاق الطائف، المستهدف ما قبل الأول أيضاً في إغتيال الحريري الذي أخرج سوريا من لبنان، لتدخله إيران بسرعة إندفاعة قوية على جسر الإحتلال الأميركي للعراق.
مذ ذاك، دخل لبنان بكله وكلكله في العصر الإيراني. إنه العصر الذي اقتدر فيه ذراع إيران اللبناني حزب الله على تصفير قوة القوى السياسية اللبنانية، معتمداً في ذلك سلسلة من الأساليب الترهيبية والترغيبية التي فعلت فعلها في الإجتماع السياسي اللبناني. حتى بات حزب الله الناظم العام للحياة السياسية والدستورية اللبنانية، والمتفرّد في منظومة السلاح داخل لبنان وخارجه من سوريا الى باب المندب.
وفيما بدا حصاد زرع حزب الله، يثمر في تحديد أسماء شاغلي القصور الرئاسية الثلاث، بدا زعيم الحزب أشبه بمحرّر العقود الذي يبرم صكوك الملكية الرئاسية ويصدقها لهذا الطرف أو ذاك. فضلاً عن اختراقه المتجاوز للبيئات الطائفية والمناطقية الأخرى. لكن فلتة الشوط في آليات السيطرة الحزبلّاهية لم تكن في إيصال ميشال عون شريكه في «تفاهم مار مخايل» الى قصر بعبدا، بقدر ما كانت في سياسة «ربط النزاع» التي اعتمدها مع ابن رفيق الحريري، الذي من المبكر احتساب اعتذاره فكاً لربط النزاع مع حزب الله أيضاً.
وبعد فشل تجربة حزب الله في حكومة حسّان دياب التي سقطت تحت أشلاء إنفجار مرفأ بيروت، ومظاهرات 17 تشرين، كان حزب الله ولم يزل أكثر المتمسّكين بسعد الحريري لرئاسة الحكومة والذي قدّم تشكيلة حكومية جديدة استناداً للمبادرة الفرنسية وأيضاً لمبادرة الرئيس نبيه برّي المفوّض من قبل حسن نصرالله بإستيلاد الحكومة ولو قيصرياً.
وإذا ما قسنا درجة إحتضان حزب الله للحريري، فنجدها نفس درجة إبتعاد السعودية عنه. لكن هل السعودية مبتعدة فعلياً عن الحريري، أم أنّها مبتعدة عن كامل النسق السياسي الذي بناه ويرعاه حزب الله؟
بعيداً عن سياسة الإحتمالات والظنّ، فموقف السعودية من منظومة الحكم والسلطة في لبنان لم يعد من الأسرار. إنه الموقف القائم على الإلتزام بالشرعيتين العربية والدولية، وعلى القرارات الدولية وبسط سلطة الدولة وحدها على كامل أراضيها ومرافقها ومرافئها البحرية والجوية والبرية والتي يكون السلاح فيها حصرا بيد الجيش اللبناني. وإن موقف السعودية هذا كما عبرت عنه دائماً، غير مرتبط بأشخاص بل بإجراءات وسياسات مفقودة حتى اللحظة. ولهذا فهي تنأى بنفسها حتى إثبات العكس. لكن أيضاً هل أن موقف مصر المطوّر تجاه لبنان معزول أو معاكس لموقف السعودية في هذا البلد المنكوب؟
بدون شك لكلّ من السعودية ومصر مقاربتهما غير المتباعدة تجاه لبنان، كما إن لكلّ منهما ظروفه الخاصة. لكن الواضح أن حجم المرارات التي طالت وتطال السعودية وآخرها الغزو المتوالي بشحنات المخدرات والكابتاغون، وما سبقها من حملات التحريض والإستعداء من قبل حزب الله ربطاً بأحداث اليمن، جعلها تنأى بنفسها عن المستنقع الجهنمي اللبناني، سيّما وأن سياستها لطالما اتسمت بالدعم القائم على أعمال الخير والمكرُمات بلا حدود، وبينها مكرُمة الثلاث مليارات يورو الخاصة بتسليح الجيش اللبناني والتي سبق وقرّرها الملك عبدالله، ثم ألغاها الملك سلمان ربطاً بما تقدم أعلاه، والتي استتبعها ولي العهد السعودي الأمر محمد بن سلمان بمراجعة الهبات والمكرُمات وفتح سجل محاسبي لها، قائم على التعاون والدعم وفق المصالح العليا للمملكة، التي ستكون وكما بيّنت اجتماعات الرياض لـ«الترويكا الدبلوماسية» التي تضمها مع فرنسا والولايات المتحدة، في صلب أي تحرك جدي لإجراء جراحة إنقاذية للبنان.
أما مصر، التي أبعدتها ظروف كثيرة عن لعب دورها التاريخي، فها هي تعلن إستئناف حضورها ودورها الإقليمي المرتكز إستراتيجياً على المصلحة العليا للأمن القومي المصري والعربي، من ليبيا الى سدّ النهضة الى غزة وسوريا والعراق، وليس إنتهاء بلبنان.
ويبقى أن تعمّد القيادة المصرية تظهير دعمها السياسي للحريري، سيكون في صلب الحسابات التي ستحكم موقف الرئيس ميشال عون (ومن خلفه حزب الله) من الحريري وتشكيلته الحكومية. وعندها ستكون مصر بنفوذها الإقليمي وتأثيرها الدولي، هي من سيبني على الشيء مقتضاه.
اللبنانيون يعلمون أن الكارثة التي تصيبهم هي نتاج منظومة المال والسلطة والسلاح. وأن معالجة الكارثة وتداعياتها مستحيلة مع حكومة جديدة من ذات المنظومة.
ما أشبه نهايات عهد ميشال عون، بنهايات حكومته العسكرية.
التاريخ يعيد نفسه.