كتبت كلير شكر في نداء الوطن:
لا جواب حاسماً إن كان سوء الحظ هو الذي يُربك أداء سعد الحريري ويزيد من تخبّطه، أم هو سوء التقدير. كان يخطط ليخرج من السباق الحكومي بضربة يد على الطاولة بعد أن يبقّ كل البحصات التي في حلقه، لتحميل رئيس الجمهورية ميشال عون ومعه رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل مسؤولية الخراب الذي سيحل بالبلد، بسبب تعنّتهما ورفضهما كل الصيغ الحكومية التي طرحها… وإذ به يخرج بصفارة رئيس الجمهورية الذي “استدرجه” إلى قصر بعبدا ليعاجله بالقول “لا مجال للاتفاق… تشرّفنا”!.
قصد الرجل القاهرة، وفق ما يقول المطلعون على موقفه، ليبلغ قيادتها نيّته بالاعتذار عن تأليف حكومة بعدما سدّت بوجهه كل الدروب. في ذهنه القرار متخذ ولا مجال للعودة عنه طالما أنّه مقتنع أنّ امكانية قيام حكومة انقاذية تتمتع بمقومات مواجهة تسونامي الانهيار، غير متاحة ولأسباب كثيرة.
لا هو قادر على تقديم مزيد من التنازلات التي ستحرقه نارها، وهو المتأكد أصلاً أنّ هذه التنازلات لن تحمله إلى السراي بسبب خوض الفريق العوني معركة “حياة أو موت” ضدّه، ولا هو قادر على تجاوز حاجز الممانعة السعودية له ولأي حكومة قد يترأسها بدليل رفض المملكة مدّ يد المساعدة، ولو الإنسانية للبنان. ولا هو في المقابل، قادر على الصمود في مربّع الانتظار الذي بات قاتلاً.
لذا حسم الحريري موقفه منذ مدّة: لا بدّ من الاعتذار مهما كلّف الأمر. حاول جسّ نبض الثنائي الشيعي في بعض الأسماء البديلة، لكنّ المشاورات لم تصل إلى أي نتيجة، مع العلم أنّه لم يكن في وارد فرش طريق خلفه، بالورود. وكلّ ما حاوله خلال المرحلة الماضية هو رسم خطوط حمراء أمام أي مرشح قد يجلس مكانه على كرسي التأليف. وما لم يقدم عليه الحريري من تنازلات، لن يسمح لغيره بفعلها، ليقفل الطريق بذلك أمام أي مرشح قد يعتقد الفريق العوني أنه قادر على تأمين وصوله إلى السراي، عبر وضع سقف لن يسمح لأي ممن سيخلفه بالنزول ما دونه، وهذا ما تقصد القيام به من خلال التشكيلة المنقّحة التي وضعها على طاولة بعبدا فور عودته من القاهرة، لتكون “نموذجاً” لمن سيأتي بعده في لائحة التكليف.
في الواقع، فإنّ الحريري، وفق المطلعين على موقفه، لم يكن مقتنعاً بخطوة تقديم تشكيلة “آخر محاولة”، لكن بعض الأصدقاء، وبينهم رئيس مجلس النواب نبيه بري هو الذي حمّسه على القيام بها، على قاعدة “لعل وعسى”، ولكي لا يحمّل الحريري مسؤولية البلاء الذي سيحلّ بالبلاد بعد اعتذاره فيكون قد أدى قسطه للعلى.
لكنّ الهفوة التي ارتكبها بعد عودته من مصر وعلى أثر لقائه رئيس الجمهورية، كلّفته كثيراً. اذ إنّ إشارته إلى أنّه منح رئيس الجمهورية وقتاً محدداً لمراجعة التشكيلة وإبداء الرأي بها، أحرجته كثيراً، ودفعته إلى طلب موعد جديد من قصر بعبدا، خصوصاً وأنّ الأخير لم يقفل الباب نهائياً أمام مبادرة رئيس الحكومة المكلف، لكي يتحدد موعد جديد، وعلى أساسه تقصّد هذه المرة، رئيس الجمهورية، وضع النقاط على الحروف.
من يعرف ميشال عون جيداً، لا يستغرب الأسلوب “الفج”ّ الذي تعامل به مع رئيس الحكومة من خلال قوله صراحة إنّه “لا مجال للاتفاق”، مع أن الحريري تصرّف بإيجابية لم يكن يريدها أصلاً من خلال سؤال مضيفه اذا كان يحتاج مزيداً من الوقت لمراجعة التشكيلة.
هي العبارة التي ينتظر رئيس الجمهورية أن يقولها “زيّ ما هي” للرئيس المكلف، ولو أنّ فريقه النيابي المتمثل “بتكتل لبنان القوي” امتهن سياسة “اللف والدوران” منذ أشهر في تعاطيه مع مسألة تكليف سعد الحريري، ليبدي ايجابيته حيال هذا التكليف لكنه بالحقيقة يرفضه رفضاً قاطعاً، ويقوم بما في وسعه لإخراج رئيس “تيار المستقبل” من المعادلة. وقد نجح في ذلك، مع العلم أن الأخير كان يعتقد أن رئيس الجمهورية سيعتمد في هذه الجولة الأخيرة سياسة الأخذ والرد، لكي لا يتحمّل وزر رفض التشكيلة سريعاً ويُصار إلى اتهامه بالعرقلة وأخذ البلاد إلى المجهول. لكن ميشال عون فعلها من دون أن يرف له جفن. رفض التشكيلة وأقفل المنافذ “بالباطون المسلح” على أي اتفاق مع الحريري.
ماذا بعد الاعتذار؟
ساذج من يعتقد أنّ الحريري قد يسلّم كرسي السراي لرئيس حكومة قادر على تحقيق أي انجاز، غير الانتخابات النيابية، ولذا من المستبعد أن يتم التوافق على اسم بديل في وقت قريب، خصوصاً وأنّ الثنائي الشيعي يرفض تكرار تجربة حكومة حسان دياب التي رفض “تيار المستقبل” تغطيتها سنيّاً، ولهذا ستكون مباركة الحريري شرطاً أساسياً لأي حكومة مقبلة، أقله من وجهة نظر الثنائي الشيعي لأنّ للفريق العوني رأياً مختلفاً. ولهذا قد لا يتحدد موعد للاستشارات النيابية الملزمة في وقت قريب. وستكون الكلمة في الوقت الراهن، للشارع وللدولار ولمزيد من الفوضى والانهيارات.