كتبت ريتا بولس شهوان في نداء الوطن:
لا يُمكن أيّ قارئة “كفّ” أن تحدّد الخطوات الإنقاذية التي تحملها “خطّة الإنقاذ الاقتصادية” بعنوان الاقتصاد المنتج، ولكن يمكن استشراف مدى الجدّية في طرح العنوان من حال المزارع في كسروان منذ أن بزغ نجم رئيس جمهورية لبنان. فنتيجة البحث في مَزارع هذا القضاء تشي بأنّ المُزارع لم يحصل منذ البداية على أدوية مدعومة، وبأنّه في خاتمة الموسم الزراعي لم يجد مكاناً للتوضيب. ولذا، تضاءلت المسافة بين شجرة يابسة وأخرى خضراء مع يأس المواطن المزارع من حاله “المبنّجة” من الوجع في ظلّ غياب واضح لأي نقابة تطالب لهم بحقوقهم لتكون المنطقة يتيمة نقابياً.
وعلى الرّغم من وعد رئيس الحكومة حسّان دياب، وقبْله رئيس الجمهورية ميشال عون، اللبنانيين بالعمل على نقل “الاقتصاد” اللبناني إلى الاقتصاد المنتج، وتحويله اقتصاداً يرعى الإنتاج الزراعي والصناعي لتقليص الاتّكال على الخارج الذي لم يعد متاحاً أصلاً، في ظلّ تراجع موجودات لبنان بالدولار، نجد أنَّ حجم القطاع الزراعيّ في كسروان تقلّصَ أكثر فأكثر بالتّزامن مع فقدان الأدوية الزراعيّة من الأسواق، والاعتماد شبه الكلّي على الدولار في هذه المهنة ما خلا 15% منها تحتسب بالليرة اللبنانية وتتوزّع بين اليد العاملة وفق ما يشير، من وطى الجوز، المزارع جهاد دكّاش الذي يصف الوضع بالمزري في ظلّ توقّف عدد كبير من المزارعين منذ شهرين عن العمل توقّفاً انعكس سلباً على تنوّع الأصناف في السوق. وقد فاقَمَ تردّي الوضع وضعف النظام اللّامركزي في لبنان المشكلةَ وغيّب الوزارة عن المناطق البعيدة عنها؛ فهي على حدّ تأكيد دكاش لا ترشد ولا توعّي المزارع بالأمراض التي قد تضرب موسمه، ومن ثمّ تصعب عليه عملية التشخيص، فيلجأ إلى استخدام ما “هبّ ودبّ” من أدوية زراعيّة من الصيدليات الزراعية، ويُضيف أنَّ المساعدات لا تصل الى المزارعين الحقيقيّين الّذين يجري تصنيفهم بين كبارٍ وصغارٍ سائلًا من هم الصّغار؟ فتضيع الطاسة بين المختار ورئيس البلدية.
كيف يصرّف الموسم؟
فَمَعَ هذه الصعوبات يشعر المزارع الكسروانيّ بأنّه متروك لمصيره، وأنَّه عليه أن يتدبّر أمره وحده، فيبيع بعضاً من أرضه كجرجي سلامه (قهمز) ليموّل زراعة البندورة والخيار والزراعات الصيفيّة، ويعيش كلّ الفصول الباقية من الغلّة التي تكفيه حيناً وحيناً آخر تضطرّه إلى أن يلجأ إلى الدين. يضحك العمّ “جرجي” عندما تستفهم “نداء الوطن” عن الدعم، ويخبر أنّه دفع منذ بضعة أيام 18 مليون ليرة أي ألف دولار على سعر صرف الدولار نقداً لأنّ أحداً ما عاد يُديّن، وأنَّه انتقل إلى منطق “كلّ رشّة برشّتها” مع زرعه. وهذه الاستراتيجية لا يطبّقها الجميع؛ فعصام مهنّا (كفردبيان) مثلًا يتأخّر في رشّ الأدوية لمكافحة الحشرات والأمراض، ويعتمد سياسة التقنين في النوعيّة والكمّيّة؛ لأنَّ هناك موادّ السماد غير قادر على تأمينها، وهو ما ينعكس على الإنتاج والنوعية لديه. يشترك المزارعون في الهمّ ولا قدرة لهم على الهروب من هذا الواقع ولا سيّما أنَّ بعضهم ورث أرضه ومهنته من والده؛ ولكنْ في ظلّ التدهور الاقتصادي والمالي الحاصل، وإنْ كان عدد كبير من الملّاك قد ظنّ بداية أنّ الأرض والزراعة قد تكفيانهم، فإنَّ عملية ارتفاع أسعار المبيدات والمخصّبات الكيميائية والشتول والبذور كانت لهم بالمرصاد، فوقع المزارع في خسارات متلاحقة لا يمكنه تحديدها؛ إذ إنّ الربح ربع ما يدفع، فإن كلّف صندوق التفّاح مئة ألف ليرة على حدّ تعبيره يردّ المزارع عشرة آلاف ليرة فحسب من التكلفة، وإنّ كلّ رشة من المبيدات تكلّف مليون ليرة وفق سعر الصرف وهي ضرورية لتكون الأرض نظيفة وتنتج زرعها بدون أن يضرب الموسم.
لذا، فإنّ المزارع جورج عقيقي لا يثق بهذه الدولة، ويرجّح أنّ هناك مساعدات تُوزّع، ولكنّه لا يعلم عنها شيئاً ولا تصله؛ إذ أرسل أوراقه مراراً إلى وزارة الزراعة، ولكن لم يعاود أحد التواصل معه. وبالنسبة إليه فإن استمرّ الوضع كما هو فمن المستحيل أن يكمل في الزراعة، فهو يعمل في وظيفتين ليؤمّن الموادّ المطلوبة مشيراً إلى أنَّه لو كان لديه أولاد لما استطاع العمل في الأرض. فبيت القصيد أنَّ المساعدات التي يسمع بها أهالي كسروان لا تصل إليهم، فجوزيف مهنّا (كفردبيان) غير قادر على استيعاب واقع الإهمال في منطقته كسروان مقارنة بالبقاع رافضاً الدخول في تفاصيل “الحاجات”؛ فبنظره هي معروفة ولا تحتاج إلى دراسات معمّقة ولا فلسفة، فكلّها “قصّة أسمدة وكيماوي ورش”. أمّا المياه، وفق ريمون صفير (داريا)، فمقطوعة، ولذلك يلجأ إلى الصهاريج.
فالدولة مجدّداً هي في صلب مشكلة عملية الإنتاج ليُواجه المزارع الظّروف القاسية بجهوده الفرديّة، فـ”بيار أبي نخّول” (ميروبا) “يطاحش” على حدّ توصيفه، أي يعمل بكدّ متواصل ليلاحق سقف سعر الصرف وليؤمّن إيجار الأرض، ويرى أنّه كمن يلعب “القمار” في الزراعة؛ إذ لا أحد يضمن كيف ستكون تسعيرة الموسم، ولا يمكن تقدير الربح أو الخسارة، لهذا استحدث معادلة جديدة مع العمّال في هذا الوضع الاقتصادي، فصار يدفع لهم يومياً وليس شهرياً للتوفير مكرّراً اللحن الذي على ما يبدو أصبح متداولاً بين المزارعين ومفاده أنّ المساعدات تذهب وفق “أهواء” وزير الزراعة السياسية، وأنّ بعض نوّاب كسروان يعدون ولا يوفون”، ويُضيف: “أرسلنا أوراقنا مراراً ولم يجبنا أحد حتّى لو كان الموسم مضروباً”. ومع هذا الوضع المسدود الأفق لا يبقى أمام بعضهم إلّا الاستدانة، فيسأل طوني سعادة (ميروبا) “نحن الذين يصنّفونا بصغار المزارعين نسأل الوزير الكبير عن حقنا؟”، ويضحك متابعاً “ماذا أقول له أنا مزارع خسّ وفاكهة أريد حقي؟”.
وهذا الحقّ تعرفه حتى زوجات المزارعين؛ فمريم شقير (حراجل) تخبر “نداء الوطن” أنّه لا يمكن مراجعة أحد بالمساعدات وتؤكد أنّ “كلّ العالم تستفيد في كسروان ولا نعرف مع من يجب التواصل، لكنّنا نعلم أنّ هناك مساعدات”. مع العلم أنَّ شريحة كبيرة من سكّان فتوح كسروان لا قدرة لهم على الوصول إلى الإنترنت ولا إلى تدريبات من البلدية إن كانت موجودة أصلاً أو الجمعيات المحليّة، ومريم واحدة من هؤلاء، ولكن بالتواتر تصلها أخبار بأنّ “هناك مساعدات تأتي إلى البلدية، وتُوزّع وفق المحسوبيات”.
وبعد مرحلة الزرع تأتي مرحلة التوضيب التي سيشعّ نجمها كمشكلة جديدة لدى المزارعين، فيروي سيزار خليل (فاريا) معاناته، وهو مالك برّادات للتوضيب، فيخبرنا أنَّ العملية هذه سترتفع تكلفتها كثيراً هذا العام بسبب سعر الصرف؛ إذ إنّ تلك العمليّة تحتاج إلى الكهرباء والمازوت، حتى إنّه يضع احتمال عدم القدرة على التوضيب نصب أعين المزراعين بسبب عدم توفّر الكهرباء في ايلول، وهو ما سيضع المزارع أمام خيار توزيع بضاعته بين التجّار. وتتكرّر رحلة العذاب حتى مع هذا الخيار؛ لأنَّ عدداً كبيراً ممّن حاورناهم يصفون التعامل مع التجار بأنّه يشبه مؤامرة! فالتجّار يعمدون إلى توحيد خطابهم مهدّدين المزارع “بالكساد” تهديداً من شأنه أن يرخّص البضاعة تدريجاً، وبذلك يفرضون عليهم أسعارهم، ولا يمكن مفاوضتهم بأي طريقة لرفع السعر لا في سوق خضار نهر إبراهيم ولا سوق سنّ الفيل مهما كان التاجر “آداميًاً”.
ويختصر المهندس الزراعي والأستاذ المحاضر في جامعة الروح القدس – الكسليك مارك بيروتي المسألة بأنّ كلّ ما يلزم المزارع لينتج يُدفع حسب الدولار الأميركي نقداً؛ لأنها جميعها مستوردة من الخارج بدءاً من البذور التي يبدأ العمل بها، مروراً بالتربة العضوية التي ينمو فيها الزرع وصولاً إلى البدائل للمواد الكيميائية وهي أسمدة عضوية تصنع في لبنان على حدّ تأكيده، ولكنّ الكيميائية تستورد من الخارج إضافةً إلى الحاجة إلى الموادّ الأساسية من البترول المستورد لتصنيع تلك الأسمدة العضوية. وفي حالة مرض الزرع فإنَّ كلّ الأدوية التي يحتاج إليها المزارع مستوردة أيضاً. ولذلك فهذه التكلفة العالية تقع على كاهل المزارع وحده، وهذا ما يستغربه المزارعون! فلئن كانت الدول في العالم تدعم القطاع الزراعي، فإنّ لبنان لا يعبأ به، مع أنّ الدولة يمكنها أن تخفّف كلفة الإنتاج لو كانت تولي القطاع أهمية على حدّ تعبير بيروتي، ولا سيّما أنّه لا يمكن الاستغناء عن رشّ المبيدات مطلقاً؛ فهو حلقة أساسيّة في الدّورة الزراعية التي تنتهي عند التاجر الذي يربح على حساب المزارع الذي لا يحتكّ بالزبائن. وفي هذا السّياق، يُشير بيروتي إلى أنَّ هناك مبادرات زراعية ظهرت مجدداً تتكفّل عملية توصيل الزرع إلى المنازل ممّا يساعد في رفع الإنتاج.
وقد سألت “نداء الوطن” في متابعة هذه القضية مصدراً رفيع المستوى في وزارة الزراعة عن الدعم، فأكّد أنّه توقّف، أمّا برامج المساعدات التي تباشر بها المنظمات الدولية كالـ”فاو” والّتي أعلن عنها الوزير فأشار هذا المصدر إلى أنَّ المشكلة ليست في الوزارة، بل على المواطن أن يجتهد ليصل إلى المعلومات؛ وهي مسألة متعلّقة عادةً بالجمعيات، فهي التي تتابع مع المزارعين وليس الوزارة؛ إذ إنّ الأموال المادّية أو العينية تأتي عبر هذه الجمعيات التي تتواصل مع السلطات المحلّية؛ وعليه، فالمسؤولية لا تقع على عاتق الوزير، بل هي بالتنسيق بين البلدية وبين الجمعية.
أمام هذا الواقع وفي ظلّ غياب المرجعية وانحلال الخطة الإنقاذية التي ستدعم التصدير، يتعيّن على نوّاب كسروان البحث عن الفرصة واقتناصها حتّى لو كانت عملية تنظيمية لا مركزية.