نجح رئيس الجمهورية ميشال عون في الإطاحة بالرئيس المكلف تشكيل الحكومة زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري الذي اعتذر عن مواصلة مهمته بعد نحو تسعة أشهر من تفويضه من البرلمان، شهدت معارك «كرّ وفرّ» قاسية فوق مسرح سياسي – اجتماعي منهك ومنكوب ومنتهَك.
ورغم ما يشبه «الإنزال» الديبلوماسي المتعدّد الجهة الذي ألحّ على بيروت فكّ أسْر الحكومة واستخدم كل ما أوتي من عبارات التوبيخ والتقريع والازدراء بحق المسؤولين اللبنانيين، فإن الفرصة الأخيرة التي لاحت في الساعات الماضية لـ «الإفراج» عن الحكومة سرعان ما صارت… فرصة ضائعة.
الاعتذار «المدوي» للحريري في ملابساته وتوقيته وخلاصاته وتداعياته، ليس الأول إذ سبق لزعيم «تيار المستقبل» أن اعتذر عن تشكيل الحكومة في العام 2009 ثم أعيد تكليفه بعد ثلاثة أشهر.
وكان ذلك بعيد الانتخابات النيابية في العام عينه وفي عهد رئيس الجمهورية آنذاك ميشال سليمان.
ولم يكن اعتذاره الأول بعيداً عن «الأسباب الموجبة» لخطوته الحالية إذ ارتبط التطوران بالصراع الداخلي ذي البعد الإقليمي مع تحالف عون و«حزب الله».
والحريري، الذي يسجل اعتذارين عن تشكيل الحكومة، كان أُخرج من الحكومة بـ «انقلاب» سياسي – دستوري عندما استقال وزراء تحالف عون – «حزب الله» وحلفائهما في يناير 2011 لحظة دخوله إلى البيت الأبيض للقاء الرئيس باراك أوباما، وهو – أي الحريري – سجل استقالتين أيضاً، واحدة من السعودية في الـ2017 سرعان ما عاد عنها، وثانية في ملاقاة انتفاضة 17 أكتوبر الـ2019، قبل أن يُعاد تكليفه من جديد قبل نحو 9 أشهر.
وتؤشر الاختبارات القاسية التي توالت على موقع رئاسة الحكومة في لبنان بعيد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في فبراير الـ2005 وحتى اعتذار الحريري – الابن للمرة الثانية، إلى حجم التحديات ذات الطبيعة السياسية – الطائفية في لعبة التوازنات الداخلية وما تنطوي على «حرب صلاحيات»، إضافة إلى ارتباط مجمل الوقائع السياسية في بيروت بالصراع الكبير على النفوذ في المنطقة.
واللافت أن ما يحوط بموقع رئاسة الحكومة، تكليفاً وتشكيلاً، أصبح مماثلاً للصراع على رئاسة الجمهورية التي تراوح بين الفراغ أو التمديد، خصوصاً في ضوء الكباش حول الصلاحيات والضغوط السياسية لإجراء تعديلات دستورية بالممارسة أو عبر الإيحاء بأعطاب في اتفاق الطائف.
تختلف الاستقالة والاعتكاف والاعتذار وظروف تشكيل الحكومات بين الجمهورية الأولى والثانية. فدستور الطائف عدّل جذرياً كل ما يرتبط بعملية التشكيل، فألغى صلاحيات لرئيس الجمهورية في تأليف الحكومة، وأبقى على أخرى.
لكن الجمهورية الأولى لم تشهد اعتذاراً عن التكليف، لأن ظروف العملية برمتها مختلفة. ورغم ذلك فإن تشكيل الحكومات قبل الطائف، بني على قواعد التوافق بين المكوّنيْن الأساسيين الموارنة والسنة.
الرئيس أمين الحافظ قدم استقالة حكومته العام 1973 في مجلس النواب بعدما لاقى معارضة سنية واسعة وفُقد النصاب في جلسة إعطائها الثقة، بعدما لمست القوى المسيحية غياب التغطية السنية للحافظ.
والرئيس نور الدين الرفاعي قدم استقالة حكومته بعد شهرين من تكليفه من الرئيس سليمان فرنجية العام 1976 بسبب معارضة الجبهة الوطنية له يومها.
هناك فارق بين الاعتذار في الجمهورية الأولى والثانية. ففي جمهورية ما قبل اتفاق الطائف، كان رئيس الجمهورية هو الذي «يعين الوزراء ويسمي منهم رئيساً» وفق المادة 53 من الدستور، وحكومتا الحافظ والرفاعي كانتا في أولى خطواتهما قبل أن تسقطا.
أما في جمهورية ما بعد الطائف، فبات رئيس الجمهورية يسمي رئيس الحكومة المكلف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب استناداً إلى استشارات نيابية ملزمة. واعتذار الرئيس المكلف يعني ان لا حكومة قائمة إلا تلك المستقيلة وتصرّف الأعمال كما هي حال حكومة الرئيس حسان دياب الحالية.
في الجمهورية الثانية اذاً، اختلفت الظروف الدستورية والواقعية. سابقة اعتذار السفير مصطفى أديب الذي كان كُلف تشكيل الحكومة بعد استقالة حكومة الرئيس حسان دياب إثر انفجار المرفأ في الرابع من أغسطس 2020، لا تشبه اعتذار الحريري العام 2009، لأن الأخير كان خارجاً منتصراً من الانتخابات النيابية، وكان الاعتذار بسبب الخلافات حول المحاصصة في عملية التأليف، التي لم تعد حصراً على رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، كما إصرار كل القوى السياسية على حجز مقاعد حكومية لها، حتى تلك التي خرجت غير منتصرة من الانتخابات.
ورغم اختلاف المرحلتين قبل الطائف وبعده، فإن تجارب رؤساء الحكومات مع عملية التأليف لم تكن دائماً سهلة، كما عملية الحكم ثنائياً.
فإذا كان الاعتذار شبه مفقود، وان عملية التأليف لم تكن متعذرة كما هي الحال اليوم، إلا أن الاعتكاف كان وسيلة الاعتراض من رئيس الحكومة، على العهد وأي منحى يرى فيه رئيس الحكومة مساراً لا يتوافق معه.
وقصة الرئيس رشيد كرامي مع الاعتكاف الحكومي العام 1969 قد تكون أكثر المحطات شهرة في تاريخ العمل السياسي خصوصاً انها انتهت بتوقيع اتفاق القاهرة، كما الرئيس سليم الحص والحريري في مراحل لاحقة.
منذ أول اشتباك سياسي بين الرئيس إميل لحود والرئيس رفيق الحريري، وصولاً إلى اغتيال الحريري وما بعد مرحلة العام 2005، أصبح تأليف الحكومة عبارة عن شدّ كباش مستمر بين الرئيس المكلف والقوى السياسية، وليس رئيس الجمهورية وحده.
لقد أعطى الدستور لرئيس الجمهورية صلاحية توقيع مرسوم تسمية رئيس مجلس الوزراء وإصدار مرسوم التشكيل بالاتفاق مع الرئيس المكلف، لكنه أضاف دوراً أساسياً لرئيس مجلس النواب والبرلمان في الاستشارات الملزمة.
لكن الأمور لم تكن لتنفجر بهذا الشكل في مرحلة الوجود السوري بعد اتفاق الطائف.
إذ كانت«ترويكا»الرئيس الياس الهراوي والرئيس نبيه بري والحريري، تغطي أي اشكالات تتعلق بتفاصيل التركيبة الحكومية والحصص الوزارية.
وما بعد 2005، ومع تصاعد قوة الثنائي الشيعي أي بري و«حزب الله»، باتت عملية تشكيل الحكومات أكثر تعقيداً، إضافة إلى ان دور القوى السياسية بات أكثر حضوراً في عملية التشكيل، خصوصاً تلك التي تعتبر ان حجمها في مجلس النواب يجعلها شريكة أساسية في الحكومات. علماً ان الرئيس المكلف يسمى من خلال استشارات نيابية ملزمة، وبعد تكليفه يُجْري بدوره استشارات نيابية (غير ملزمة) لاستمزاج الكتل النيابية رأيها في ما تريد من الحكومة وشكلها.
كذلك فإن عملية الانقسام السياسي منذ 2005، بين قوى«8 و14 مارس»، حتمت في ظل الاتفاقات على حكومات وحدة وطنية أن يكون الرئيس المكلف مضطراً إلى الاتفاق مع القوى السياسية تشكيل حكومته، ما يضع الرئيس المكلف تحت وطأة الضغوط لإخراجٍ لائق لحكومته.
هذا تماماً ما عرفه الرئيس فؤاد السنيورة والرئيس تمام سلام، وحالياً الرئيس الحريري، وكل منهم بوسائل مختلفة وعلى قواعد مغايرة في عملية التأليف.
أما الحلقة التي باتت أكثر تأثيراً في عملية التشكيل، فتكمن في معادلة الرئيس الأقوى والأكثر تمثيلاً لبيئته. فمنذ التسوية الرئاسية التي أوصلت الرئيس ميشال عون الى قصر بعبدا (اكتوبر 2016) باتت هذه المعادلة، أقوى حضوراً من أي كلام عن اختيار الشخصية السنية الأولى.
لم يكن هذا المعيار معمولاً به قبل الطائف، لكن العُرف كان ان يتم اختيار الشخصية السنية الأكثر حضوراً.
وما كرّستْه التسوية الرئاسية من توازن الرئاستين، فشل أمام استحقاق التأليف المتعدد الوجه، بعدما صار الجميع شركاء في عملية التأليف.
حتى الآن مازالت أطول فترة تشكيل حكومة هي حكومة سلام، التي لم تخرج الى النور العام 2014، إلا بعد 11 شهراً، وبعدما تأكد للجميع ان لا انتخابات رئاسية، وان الفراغ الرئاسي سيكون سمة دائمة وستطبع مرحلة ما بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان.
وتكليف الحريري كاد يبلغ الأشهر التسعة، والاعتذار سيكون فاصلاً بين مرحلتين، على أبواب الانتخابات النيابية.
لكن الأكيد أنه سيضع رئاسة الحكومة مجدداً أمام استحقاق يتعلق بضرورة التمثيل الحقيقي في الرئاسة الثالثة، قبل الحديث عن عملية التأليف في ذاتها.
فلا تتكرر تجرية اختيار الرئيس حسان دياب.
https://www.alraimedia.com/article/1545373/خارجيات/الحريري-ورئاسة-الحكومة-المشوار-الشائك