كتبت ندى أيوب في الأخبار:
من شراشف السرير القديمة تصنع آمال الفوط الصحية لابنتها، في حين تستخدم هي أوراق الجرائد. هي مثال عن 76.5 في المئة من نساء لبنان اللواتي عبّرن عن صعوبة الوصول إلى مستلزمات الدورة الشهرية بعد زيادة أسعارها 400 في المئة وباتت تشكل 5 في المئة من دخل العائلات المحدود، لا لشيء سوى أن واضعي السياسات في ظل نظام أبوي – بطريركي كالذي يحكمنا لم يجدوا في فوط النساء ضرورة تستدعي إدراجها على لائحة الدعم قبل عام (تتراوح الأسعار اليوم بين 10 و30 ألفاً). وبانتظار خطة رسمية تُدرَس حالياً، تتعرّض أجساد نسائنا بنتيجة استخدام البدائل التقليدية لخطرٍ يهدّد صحتهن الجنسية والإنجابية.
أرقام «بتنشّف الدم»
تتغذى الأزمات على بعضها البعض. تتعقد وتتشعب. وفي قطار الجموح هذا لم يكن مستغرباً تأثير الأزمة المالية العميقة على مختلف القطاعات ومستويات الحياة. كذا لم يكن مستغرباً عدم اعتبار الفوط الصحية من الضرورات التي يجب إدراجها على لائحة الدعم قبل عام طالما أن النظارة الثقافية والمجتمعية تجد في مبيض القهوة والمكسرات ضرورة. فكانت النتيجة، وفق دراستين إحصائيتين صدرتا حديثاً، أن أصبح فقر الدورة الشهرية واقعاً في لبنان، وتوزعت أرقامه استناداً لدراسة أجريت بالشراكة بين جمعيتي «FE-MALE» و«PLAN international»، كالتالي:
-76.5 في المئة من النساء عبّرن عن صعوبة الوصول لمستلزمات الدورة الشهرية بسبب الزيادة الحادة في الأسعار.
-41.8 في المئة من النساء قمن بتقليل كميات الفوط الصحيّة المستخدمة خلال الدورة الشهريّة. أي أنهن استخدمنها لفترة أطول.
-87.9 في المئة من النساء غيّرن سلوكهنّ الشرائي لمستلزمات الدورة الشهريّة.
-79 في المئة من النساء لاحظن تغيّراً في عادات استهلاك مستلزمات الدورة الشهرية في محيطهنّ.
-43 في المئة من النساء يعانين من القلق والتوتر نتيجة عدم قدرتهنّ على الحصول على مستلزمات الدورة الشهرية.
-36 في المئة من النساء عانين من أعراض جسديّة بسبب عدم تمكّنهن من شراء مستلزمات الدورة الشهرية.
-35.3 في المئة من النساء استخدمن مصطلح «فقر الدورة الشهرية» للحديث عن حالتهنّ.
الدراسة التي شملت 1800 أنثى، تراوحت أعمارهن ما بين 12 و45 سنة، ويتوزعن على مختلف المناطق اللبنانية والمستويات الثقافية ومن مختلف فئات الدخل، أظهرت أن النساء والفتيات اللواتي ينتمين إلى أسر ذات دخل منخفض (من 675 ألفاً إلى مليون ونصف مليون ليرة لبنانية) هنّ الأكثر تأثراً بالأزمة الاقتصادية وتأثيرها في حقهنّ بالوصول إلى مستلزمات الدورة الشهريّة.
دراسة ثانية أجراها باحثان لبنانيان بالتعاون مع منظمات دولية واعتمدتها الهيئة البرلمانية لمتابعة تنفيذ أهداف التنمية المستدامة، خلُصَت إلى أن «الفوط الصحية زاد سعرها بنسبة 320 في المئة حتى شهر أيار 2021 عندما كان سعر صرف الدولار لا يزال 12000 ليرة، يومها كان المقدّر أن 700 ألف سيدة لبنانية وفتاة وبعض مجتمعات النازحات لا قدرة لديهن على شراء هذه المنتجات. وباتت تشكّل 5 في المئة من دخل العائلات المحدودة».
ناقصات كرامة إنسانية؟
تتراوح أسعار الفوط الصحية بين 16 و30 ألف ليرة لبنانية، وتحتاج السيدة الواحدة معدّل علبتين شهرياً، ما تكلفته بين 32 و60 ألفاً شهرياً. فما هي حال العائلات التي تضم أكثر من امرأة؟! لهذا وجدت سلمى في تمزيق الثياب التي لا حاجة لها بها مخرجاً لصناعة الفوط الصحية. فبناتها الثلاثة «أولى» بشرائها. رفاهية لا تملكها نادين التي تعلّم ابنتها ذات الـ 14 سنة كيفية استخدام قطع القماش التي لا تسعفها دوماً مما اضطرها للتغيّب عن الدراسة حضورياً في فترات الدراسة المدمجة. أمّا آمال فتصنع من شراشف السرير الفوط الصحية لابنتها، في حين تستخدم هي أوراق الجرائد! تخبرنا منال أنها لا تستبدل الفوطة لوقت طويل من اليوم، كنوع من الاقتصاد في الاستخدام، مع توتر عالٍ يرافقها في أوقات الخروج من المنزل.
من جهتها، تقول الصحافية رانيا حمزة، لـ«الأخبار»: «لا يمكنني استبدال نوع الفوط التي استخدمها، فبعد التجربة لم يلائمني سواها وإلا تعرّضت للتحسّس المفرط. على رغم أنني أستدين أحياناً لسداد تكلفتها التي تناهز شهرياً الـ60 ألف ليرة». في المقابل، لجأت زينب إسماعيل إلى بدائل حديثة ككوب الحيض أو الفوط متعدّدة الاستعمالات. بدائل آمنة إذا ما توافرت الشروط اللازمة للمحافظة على جودتها، من مياه نظيفة ومواد تنظيف وبعضها يحتاج إلى الغلي. تعتمدها زينب لأسباب بيئية لا مادية، مع إشارتها إلى أنها أقل كلفة من الفوط المستخدمة لمرة واحدة. إلا أن زينب تدرك، كما نحن جميعاً، أن ثقافة استخدامها ليست سائدة في مجتمعاتنا.
أنواع عدة من الفوط لم تعد متوافرة بسهولة. هي الأنواع الأكثر غلاء، في مؤشر واضح على تغيّر نمط الاستهلاك. ووسط هذه المعاناة التي تختبرها نساؤنا، شأنها شأن نساءٍ خضن التجربة في فترات الحروب في دولهن، أطلقت الناشطة الاجتماعية ناهلة سلامة مبادرة إنسانية قبل 10 أيام، حيث عمدت إلى جمع التبرعات بعد أن أعلنت عن فكرتها في منشور على «فايسبوك» ووزّعت الدفعة الأولى من الفوط الصحية على نساء وفتيات ينتمين إلى أسر من الفئات الأكثر حاجة. تتحضر ناهلة لتوزيع الدفعة الثانية «طالما أن التبرعات تصل سأكمل»، محذرةً من وقتٍ تصعب فيه الاستمرارية: «على الدولة دعم حاجتنا». وكانت المبادرة قد انطلقت بعد مطالبة السيدات بدعم الفوط فقابلتها حملة تنمّر وتهكّم تقلل من شأن وأهمية مستلزمات الدورة الشهرية على اعتبار أنها رفاهية وليست أولويات لحياة صحية للنساء.
مخاطر جنسية وإنجابية
تفصّل مسؤولة برامج الصحة الجنسية والإنجابية في «PLAN international»، لمى نجا، في حديث إلى «الأخبار»، كيفية تأثير صعوبة الوصول إلى مستلزمات الدورة الشهرية على الصحة النفسية والجسدية للنساء. في الشق الجسدي «على المرأة استبدال الفوطة كل ساعتين أو ثلاثة، وفي حالة الاقتصاد في الاستخدام السائدة تتعرّض السيدة لالتهابات نسائية، وأخرى في البول تتطلّب المعالجة وتفادي أسبابها وإلا تطوّرت وأدّت إلى سرطان الرحم أو العقم مع الوقت». تضيف: «الحالة عينها قد تحدث عند استبدال السيدة النوع الجيّد من الفوط بآخر غير خاضع للاختبار وحائز على الشروط الصحية. وهي أنواع قد تغزو السوق في الأزمات». كذلك يفعل القماش والأوراق بصحة النساء الجنسية والإنجابية.
وعن البدائل الآمنة، تشرح نجا: «اللجوء إلى كأس الحيض، السدادات القطنية، الفوط المتعددة الاستعمالات تتطلب تعقيماً بطريقة صحيحة ومياهاً نظيفة ومتابعة. وإن توافرت الشروط فهي غريبة عن ثقافة معظم النساء في مجتمعاتنا التي لم تعتد فيها المرأة بعد التعامل مع جسدها براحة تخوّلها إدخال كأس الحيض على سبيل المثال في الأعضاء التناسلية، ناهيك عن خوف البعض من تأثيره على غشاء البكارة».
على الصعيد النفسي، تؤكد نجا: «تعيش النساء والفتيات حالة قلق وتوتر عند اقتراب دورتهن الشهرية وأثناءها إذا لم تكن قادرة على تأمين حاجتها من المستلزمات، مما يؤثر في حياتها بشكل عام؛ كأن تتغيّب عن العمل أو المدرسة أو الجامعة نتيجة فقدان شعورها بالأمان أثناء حيضها، عدا عن شعورها بأنها مواطنة درجة ثانية».
«#نشّفتولنا_دمنا»
«#نشفتولنا_دمنا»، تحت هذا الوسم، أطلقت منظمة «Fe-Male» بالأمس حملة وطنية لرفع الصوت حول سلبيات فقر الدورة الشهرية وتداعياتها على النساء والفتيات، وللتشديد على أهمّية إيجاد حلول طويلة الأمد من قبل الحكومة اللبنانية والجهات المعنية لمعالجة هذا النقص. وتشير المديرة التنفيذية بالشراكة في منظمة «Fe-Male» عليا عواضة، إلى «ضرورة مواجهة محاولات تهميش حاجة النساء لهذه المستلزمات وتسخيفها، في ظلّ زحمة القضايا المعيشية، التي يتمّ التذرّع بها كأولويّة تغيب عنها حقوق، صحة وأجساد النساء والفتيات»، لافتةً إلى أهمّية تكامل الجهود للتوعية بحق النساء والفتيات بالوصول إلى مستلزمات النظافة الشخصية بخاصة الفوط الصحيّة، والمطالبة بهذا الحقّ». وتقول لـ«الأخبار»: «نحن كنساء غير مرئيات بالنسبة للنظام ومعاناتنا غير مرئية ومضطرات للدفاع عن حق بديهي. ولم لا تلغي الدولة الضرائب على الفوط أو تدعم الاستيراد والإنتاج فيها؟».
ماذا في الأفق؟
تتأمّل رئيسة لجنة المرأة والطفل النيابية، النائبة عناية عز الدين، إيجاد حلٍ لظاهرة فقر الدورة الشهرية، متحدثة لـ«الأخبار» عن خيارات ثلاثة. «في المدى القصير، أخذنا وعداً من منتج لبناني أن يقدّم كمّية من الفوط توزّعها الدولة مجّاناً. تحديد الكمّية والفترة الزمنية التي سيستمر فيها تقديم العون مرتبطان بآلية التوزيع التي نعمل على تحضيرها. في المدى البعيد ندرس تسهيلات وحوافز نقدّمها للمستثمرين المحليّين لتشجيعهم على زيادة الإنتاج، والعرض على البعض الآخر تطوير مصانع حفاضات الأطفال لتصبح قادرة على إنتاج الفوط الصحّية أيضاً». وتكشف عن توصّل اللجنة النيابية «تقريباً» إلى خطّة عمل سيتم الإعلان عنها «قريباً».
الهدف توسيع مروحة الإنتاج المحلي، لكن العوائق قائمة بحسب ما تنقل عز الدين عن المستثمرين؛ «صعوبة الاستثمار في التصنيع المحلي نظراً لكلفته العالية». وتشير إلى أن «التصنيع يحتاج إلى 15 مادة في حين أن الحكومة دعمت 5 فقط، وفي حينها رفضت شركة «سانيتا» لصاحبها النائب نعمة أفرام الاستيراد المدعوم لفقدان الثقة بأن مصرف لبنان سيغطي كلفة الدعم».
الجدير ذكره أن في لبنان مصنعاً واحداً، هو «سانيتا»، ينتج الفوط الصحية، ويغطّي من 20 إلى 30 في المئة من حاجات السوق المحلية، وكل الكمّيات الثانية التي تغطي حاجة السوق مستوردة.