كتب إيلي الفرزلي في “الاخبار”:
بعد أن هرب سعد الحريري من التكليف، جُلّ ما كان يريده هو الفوز بالنقاط على خصومه. ولذلك، سارع إلى «قطف» معلومة، كان يفترض متابعتها مع الجهات المعنية، سبق أن سمعها كل المسؤولين من ممثل صندوق النقد: الأردن حصل على الموافقة الأميركية لمرور الغاز المصري عبر سوريا. لكن بصرف النظر عن «السبق الصحافي» الذي فاز به الحريري، هل يمكن للبنان أن يأمل بعقد يخفف الكلفة الضخمة لإنتاج الكهرباء؟ كل المؤشرات تؤكد أنه كما مصر مهتمة ببيع الغاز إلى لبنان، الأردن مهتم ببيعه الكهرباء. يبقى أن تبادر الحكومة الحالية أو الحكومة الجديدة إذا أمكن تشكيلها سريعاً، إلى التواصل مع البلدين، للحصول منهما على عروض تسهم، بالتوازي مع عقد الفيول العراقي، بإنقاذ البلد من العتمة.
رمى الرئيس سعد الحريري رميته ومضى. قال إنه طرح، أثناء زيارته إلى القاهرة ولقائه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، قضية استجرار الغاز المصري إلى لبنان عبر الأردن وسوريا، معلناً أن الأردنيين استطاعوا إقناع الأميركيين بهذا الأمر.
ماذا بعد؟ هل هذا يعني أن لبنان سيحصل على الغاز المصري، أم أن ما قاله الحريري أتى في سياق إنجازات وهمية لن يكون لها أي تأثير على الأرض؟
تؤكّد مصادر مطلعة أن ما كشفه الحريري لم يكن سوى ما أبلغه المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي،» محمود محيي الدين، الذي زار لبنان منذ أيام، إلى المسؤولين الذين التقاهم. فهو أكد فعلاً أن الأردن تمكّن من الحصول على موافقة أميركية لاستثناء الغاز المصري من قانون قيصر، بما يسمح عملياً بمروره عبر الأردن وسوريا إلى لبنان من دون التعرض للعقوبات.
مع ذلك، فإن كلام الحريري شكّل أمس مفاجأة لأغلب الوزراء. إذ لا معلومات جدية عن أي تقدم في ملف استجرار الغاز من مصر، وإنْ يؤكد الجميع أن لبنان بحاجة ماسة لعقد كهذا يقلصّ من استنزاف الدولارات على شراء الفيول، بحيث يمكن تشغيل معمل دير عمار (450 ميغاواط) كاملاً على الغاز.
الحاجة إلى الغاز المصري لطالما كانت ملحّة، لكن الحريري الذي كان رئيساً للحكومة منذ 2016 وحتى نهاية 2019، لم ينجز شيئاً على هذا الصعيد. حينها لم يكن قانون قيصر قد صدر، لكن اعتبار الحريري وتياره أن المعركة مع النظام السوري أهم من تأمين مادة استراتيجية للبنان، حال دون أي تقدم في الملف.
مع ذلك، فإن ما قاله الحريري عن حصول الأردن على موافقة أميركية لاستثناء تصدير الغاز من العقوبات على سوريا، يفتح الباب أمام توسيع الخيارات أمام لبنان. فالأردن نفسه مستعد لبيع الكهرباء إلى لبنان، بخاصة أنه يملك قدرات إنتاجية تقارب ضعف حاجته. وهو سبق أن وضع في أولوياته السعي إلى بيع الكهرباء إلى لبنان وسوريا والعراق. كما تشير المصادر إلى أن عمّان تواصلت مع سوريا منذ ثلاث سنوات من أجل تصدير الكهرباء عبرها إلى لبنان، إلا أن السلطات السورية رفضت التواصل مع الأردن حينها، انطلاقاً من الدور الذي لعبه في الحرب على سوريا.
اليوم تغيّر الوضع. والتواصل بين البلدين عاد على أكثر من صعيد، لا سيما التجاري منه. وعليه، فإن لبنان مطالب بالتفاوض مع مصر والأردن معاً، وكذلك مع سوريا إذا أراد تخفيض كلفة الكهرباء.
لكن حتى مع افتراض أن العقبات القانونية أزيلت من أمام العودة إلى توقيع العقد مع مصر أو توقيع عقد جديد مع الأردن، فإن عقبات تقنية يُفترض أن تُذلّل قبل ذلك. إذ إن أنبوب الغاز طاله الضرر في منطقة الريان في محافظة حمص، بالتالي يفترض أن تبادر سوريا إلى إصلاحه في حال اتفاقها مع مصر على استئناف التصدير. كما أن أعمدة التوتر العالي في منطقة درعا التي يحتاجها نقل التيار من الأردن أيضاً معطّلة.
ما قاله الحريري عن مناقشته الملف مع الرئيس عبد الفتاح السيسي «لتخفيض فاتورة الكهرباء عبر الحكومة الجديدة رغم أنني لست رئيسها»، لا يعني الحاجة إلى وجود حكومة جديدة للسير بالاتفاق. إذ تؤكد مصادر قانونية غياب ما يمنع الحكومة الحالية من التفاوض وتوقيع اتفاق كهذا، بوصفه يدخل ضمن الأمور الطارئة في ظل الوضع الراهن لإنتاج الكهرباء، إلا إذا كان الجانب المصري يشترط وجود حكومة مكتملة الصلاحية. لكن مع ذلك، فإن مصر التي صار الإنتاج يفوق حاجتها، بدأت بالفعل مساعي لإيجاد أسواق جديدة للغاز، وهي إذ تتوقع إنتاج 7.2 مليار قدم مكعبة من الغاز الطبيعي يومياً مع نهاية العام الحالي، فإنها ستكون مستعدة لتصدير ما يزيد على مليار قدم مكعبة. علماً أن التجربة السابقة بين البلدين يمكن أن تختصر الكثير من الوقت، فلبنان سبق ووقّع عقداً لمدة 15 عاماً مع مصر لاستجرار الطاقة عبر الخط العربي، بعدما وُصِل لبنان به بخط يربط حمص (سوريا) بالبداوي (لبنان) بطول 32 كلم. وكان السعر منافساً حتى لمحطات التغويز في حال إنشائها في لبنان، إذ جرى استيراد الغاز بسعر 5.6 دولار لكل مليون «بي تي يو» (وحدة قياس للغاز الطبيعي)، مقابل أكثر من 7 دولارات للكمية ذاتها في حال إنشاء محطات تغويز.
لكن الفرحة اللبنانية لم تدم حينها لأكثر من سنة واحدة. إذ جَمّد الجانب المصري العمل بالعقد من طرف واحد، من دون أي اعتراض لبناني، ليعود بعدها لبنان إلى الاعتماد كلياً على الفيول. حينها تردّد أن سبب توقف مصر عن تصدير الغاز كان تأخير وزيرة المالية ريا الحسن دفع الفواتير التي كان أرسلها لها وزير الطاقة جبران باسيل لنحو ستة أشهر، ما راكم نحو 30 مليون دولار من المتأخرات. أضف إلى ذلك أن القاهرة اعتبرت، حينذاك، أن الغاز المصري لم يعد كافياً لإشباع السوق المحلية، فخفّضت الكميات المعدة للتصدير.
بالرغم من التوفير الهائل الذي يؤمّنه إمداد معمل دير عمار بالغاز (يُقدّر الوفر بعشرات ملايين الدولارات سنوياً)، فإن الحكومات المتعاقبة لم تكترث لأهمية الاستعانة بالغاز، حتى العام 2013، حين أطلقت مناقصة لاستقدام محطة تغويز أعيد إلغاؤها لاحقاً بسبب الخلاف السياسي على نتيجتها، لكن بحجة أن الشركة لم تكن مؤهّلة لاستقدام المحطة وإدارتها. علماً أن الشركة نفسها عادت وبنت محطة في مصر! أما الخسارة بالأرقام، فكانت ما بين 2.5 و3 ملايين دولار في اليوم (من جرّاء استمرار الاعتماد على الفيول) أي ما يزيد على مليار دولار سنوياً.
لم يكترث أحد لهذه الأرقام. كانت الأولوية لإلغاء المناقصة تمهيداً لتحسين المواقع في المناقصة الثانية، التي أُطلقت في العام 2017، تعبيراً عن نضوج التسوية السياسية، وأفضت إلى إنشاء ثلاث محطات لا واحدة: البداوي والزهراني وسلعاتا. حينها كان الحريري رئيساً للحكومة، والأهم أنه بقي في موقعه حتى إنجاز المناقصة. لكن فيما كان يفترض أن تقر الحكومة نتيجتها في صيف 2019، استقال الحريري قبل البتّ بها، قبل أن تفقد الشركات اهتمامها بعد الانهيار النقدي. ولذلك، بدلاً من أن يكون تشغيل معملي الزهراني ودير عمار على الغاز قد بدأ في منتصف 2020، كانت النتيجة خسائر هائلة تقدر سنوياً بمليار دولار، أي ما يعادل 6 مليارات دولار منذ العام 2015 وحتى اليوم. وقد كان الحريري، الذي أوحى أنه حريص على تخفيض فاتورة الكهرباء من خلال التواصل مع المصريين، أبرز المسؤولين عن هدرها.