كتبت زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:
من يمر ظهراً على أوتوستراد طبرجا باتجاه بيروت يفاجأ برتل السيارات المركونة الى جانب الطريق ويتساءل ما إذا كان طابور الانتظار على محطة الوقود البعيدة قد وصل الى هذا المكان، لكن تكرار المشهد يومياً وفي كل الساعات ينبئ بانتظار آخر، انتظار الدخول الى كازينو لبنان الذي يفتح أبوابه لرواد الـ Slot Machines منذ العاشرة صباحاً فيتهافتون باكراً ويركنون سياراتهم إلى جانب الطريق ضناً بكلفة الباركينغ التي يمكن لألوفها أن تؤمن لهم محاولات عدة على ماكنات الحظ… إنهم المحبطون الهاربون من بؤس الواقع الى أرض الأحلام المعدنية.
هؤلاء ليسوا رواد صالات الألعاب المعتادين في الكازينو، المقتدرين الذين ينفقون الأموال بلا حساب ولا المقامرين المحترفين المدمنين على اللعب، او الباحثين عن تسلية فاخرة في صالة مرهفة، انما هم “المعتّرون” الباحثون عن ضربة حظ، عن “ورقة لوتو” تدر عليهم دفقاً من النقود المعدنية تعينهم على قضاء حاجات يومهم، والساعون وراء تسلية تفرغ رؤوسهم من الهم اليومي… كازينو لبنان الذي كان جوهرة المتوسط ودجاجة لبنان الذهبية يعيش اليوم مثله مثل لبنان انفصاماً بين الفقر والبحبوحة، بين الإحباط واللامبالاة، بين رواد كأنهم في لاس فيغاس وآخرين كأنهم في فنزويلا أو ما يشبهها من البلدان المأزومة…
أردنا استكشاف وضع الكازينو من الداخل وكيف يعيش هذه المرحلة، هل تأثر بالأزمة المالية والانهيار الاقتصادي كسواه من القطاعات؟ أم شكل ارتفاع الدولار رافعة له ولرواده؟ وقبلها كيف انعكست ازمة كورونا عليه وما رافقها من انتقادات له؟
لم يشأ مدير عام الكازينو السيد رولان خوري الخروج الى الإعلام في هذه المرحلة الدقيقة التي يعيشها لبنان أو التحدث عن واقع الكازينو في ظل هموم أعتى يعيشها اللبنانيون، وبالفعل قد يبدو الحديث عن الكازينو مستفزاً للكثيرين لكن الإقبال عليه واقع لا يمكن إنكاره. من داخل الكازينو ومن مصادر عدة تلمّسنا كيف كان وضعه في السنتين الأخيرتين وكيف هو اليوم.
واسطة للدخول
مع انطلاق الثورة وقطع الطرقات، خفّ رواد الكازينو لفترة ليعودوا بعدها الى الحضور كعادتهم مع عودة الطرقات الى طبيعتها وطالما كان الكازينو فاتحاً أبوابه كان الرواد يتوافدون. مع بدء أزمة كورونا ظلت أبواب الكازينو مفتوحة لأسبوعين مع الإلتزام بإجراءات سلامة صارمة أثنت عليها لجنة وزارة الصحة لكن مع تأزم الوضع بدأ استقبال الكازينو للناس يثير جدلاً قوياً وكان الخوف قد عمّ معظم اللبنانيين فاضطر الكازينو لإقفال أبوابه لمدة ستة أشهر كاملة ترافقت مع فترات التعبئة ليعود بعدها الى الفتح تدريجياً. وتقول مسؤولة في الكازينو لـ”نداء الوطن” انه تمّ تركيب فلاتر معقّمة للهواء، وفواصل من الفيبر غلاس بين اللاعبين وحول الطاولات وحتى الأموال كان يتمّ تعقيمها بواسطة البخار ولم يكن الكازينو يستقبل إلا 50% من طاقته الاستيعابية.
والطريف في الأمر أن الرواد كانوا ينتظرون دورهم في الخارج حتى يفرغ مكان لهم وأحياناً يجرون اتصالات للواسطة علّ أحد المسؤولين يمنّ عليهم بإدخالهم. وطبقت الإجراءات بصرامة على الرواد كما الموظفين وألغيت كل النشاطات في الكازينو. وتسبب هذا الإقفال القسري بخسارة كبيرة بلغت بحسب بعض المعلومات 50 مليون دولار لم يستطع حتى اليوم التعويض عنها. ويؤكد المصدر الذي تحدثنا إليه أن رواد الكازينو باتوا بمعظمهم من اللبنانيين ولا سيما بعد إقفال الحدود مع سوريا وبات يلاحظ وجود عدد قليل من الرواد العراقيين والسوريين والأردنيين مع غياب شبه تام للخليجيين وكذلك للأوروبيين. وغياب الخليجيين لا يعود الى أسباب سياسية فحسب بل الى غياب الحفلات الفنية والنشاطات الترفيهية عن الكازينو التي كان يقصدها هؤلاء وينتقلون بعدها الى صالات الألعاب. فالحفلات الفنية متوقفة أو هي متواضعة مع طاقات محلية لا تشبه ما اعتاده الكازينو من مستوى عالمي. كل النشاطات معلّقة، المسرح مقفل وكذلك صالة السفراء والحفلات الخاصة التي اعتادت الجمعيات وروابط العائلات وبعض الشركات القيام بها في الكازينو غائبة هي الأخرى او قليلة جداً. وحده “التيراس” الخارجي قد فتح أبوابه وبدأ يستقبل الزائرين من مقيمين ومغتربين ويشهد إقبالاً لا سيما خلال الأحداث الرياضية مثل مباريات كأس أوروبا.
عموماً تقول المسؤولة أن موسم الصيف في الكازينو على صعيد الحفلات يعتبر موسماً ميتاً ولا يشهد حفلات كبيرة وذلك بسبب المهرجانات الفنية التي تقام في مدن لبنان وقراه أما الموسم القوي فيمتد من الخريف الى الربيع. ولكن لا يبدو أن موسم الحفلات سيكون زاهراً في ظل الوضع العام الذي لا ينفك ينحدر نحو الأسفل.
الأزمة تغربل الرواد
زبائن الكازينو أو رواده كما يحب المسؤولون تسميتهم تغيرت أحوالهم وأنقلبت أوضاعهم مع إنقلاب أوضاع لبنان، وحده حبهم للمقامرة لم يتغير. زبائن الماكنات لا يزالون الأكثر عدداً يتوافدون منذ العاشرة صباحاً أملاً بتسلية وربح بسيط، أعدادهم لم تتغير ما تغيّر ربما هو الوقت الذي يمضونه في اللعب بعد أن ارتفع ثمن “الفيشة”، ينفقون ما معهم ويذهبون.
أما زبائن صالات الألعاب فهذه قصة مختلفة كلياً، فهؤلاء غربلهم الوضع الاقتصادي، ترك منهم الميسورين اصحاب “الفريش موني” وأبعد من اصطلح على تسميتهم “شوفيرية التاكسي” او بشكل اصح اصحاب الدخل المحدود جداً. فمن كان يأتي سابقاً الى الكازينو ليلعب ب300 او 500 ألف ليرة لم يعد هذا المبلغ يسمح له باللعب أو ربما لم يعد يملكه ومن كان ينفق راتبه في لعبة ثم يستدين من المرابين المتواجدين في حرم الكازينو أو محيطه لم يعد قادراً على ذلك مع قيام إدارة الكازينو بالتعاون مع مخابرات الجيش بمنع هؤلاء من التواجد هناك. لذلك وحدهم من يملكون الكاش دولار استمروا رواد الكازينو. وان كان للأزمة المالية من حسنات فهي أنها ابعدت “الفقراء ” عن صالات الألعاب بعد ان نافست هذه الأخيرة في تفريغ جيوبهم.
تغيرت نوعية رواد الكازينو يقول أحد الموظفين المسؤولين في صالات الألعاب، لا بل تحسنت بفعل ارتفاع سعر الدولار. فاللعب في صالات الكازينو بالليرة اللبنانية ورغم ارتفاع اسعار الفيش ضعفين او ثلاثة، باتت المراهنات بمبالغ كبيرة أمراً عادياً بالنسبة لأصحاب الدولار، وهؤلاء ازدادت أعدادهم كما يؤكد بدهشة الموظف المسؤول، وباتت ألعابهم أكبر ومراهناتهم أعلى أما من لا يملك الدولار فلم يعد قادراً على دخول الكازينو. ومن كان يلعب ضربة spin على طاولة الروليت بمئة مليون او 500 مليون سابقاً صارت ضربته تصل الى مليار ليرة اليوم، او صار يلعب الـ plein، المليون لم يعد لها قيمة بالنسبة الى الزبون “الثقيل” حتى الخسارة الكبيرة لم تعد موجعة كما كانت سابقاً، فمن يخسر 40 مليوناً على سبيل المثال فخسارته لا تعادل أكثر من ألفي دولار.
دولار الكازينو لا يزال بـ1500 ليرة فيما اللاعبون يصرّفون دولاراتهم في الخارج ويلعبون بمبالغ طائلة لفترات أطول. فمن كان يأتي ليتسلى بألفي دولار سابقاً صار اليوم يمضي يومين او ثلاثة على الطاولة لينفق هذا المبلغ. الطاولات “مفولة” وعلى الرغم من التقيد بنسبة 50 % من القدرة الاستيعابية فإن عدد طاولات الروليت الملأى ليلياً يوازي 20 طاولة والزبائن ينتظرون بالصف…
غابت التسلية وحضرت المقامرة
نسأل الموظف من هم هؤلاء الرواد أصحاب الدولارات؟ مقيمون مغتربون أم زوارعرب؟ “اللبنانيون المقيمون هم الأساس يقول وكمية الاشخاص الذين يملكون الدولارات الكاش في بيوتهم تفوق التخيّل، وهؤلاء يأتون للمقامرة وليس للتسلية لا سيما بعد الكورونا. فمن كان يأتي سابقاً لقضاء وقت ممتع وتناول العشاء وتدخين السيجار وشرب الكونياك، وليتسلى باللعب قليلاً وجد اليوم أن هذه الأمور كلها قد ألغيت بسبب الكورونا. فالتدخين ممنوع وكذلك تناول الطعام أو الشرب داخل الصالة ومن يود ذلك عليه القيام به خارجها. سابقاً كنا نقدم 40 الى 60 سيكاراً في الليلة، اليوم لم يعد لدينا سيكار. لذا وحدهم “القمرجية” المحترفون يتحملون هذه الإجراءات ويقصدون الكازينو بهدف المقامرة فقط”.
المغتربون بدورهم بما يملكون من دولارات باتوا يشكلون ركيزة لألعاب الكازينو إنما لفترة محدودة تترافق ومدة إقامتهم في لبنان. المغترب كان سابقاً زبوناً عادياً يصرف ربما ألف دولار في الكازينو، صارت توازي 20مليوناً وما فوق لذا بات يتردد أكثر الى الكازينو ويصطحب معه أقارب واصدقاء.
بالنسبة للعرب فقد تكون ألعابهم أكبر ولا سيما العراقيون والأكراد، والأموال التي ينفقونها أعلى لكنهم لا يمضون أوقاتاً طويلة في الكازينو، وحدهم اللبنانيون زبائن دائمون يمضون الوقت الأطول.
سابقاً كان الموظفون في القطاع العام ممنوعين من الدخول الى الكازينو وكذلك عناصر الجيش وضباطه ومثلهم موظفو المصارف وأصحاب الدخل المحدود وكان لا بد لكل من يود الحصول على بطاقة عضوية أن يصرّح عن مدخوله وعمله ليحق له الدخول إذا توافرت فيه الشروط وكانت مخابرات الجيش التي تتخذ مركزاً لها في كازينو لبنان تتحقق من هذه المعلومات، وفق إحدى المسؤولات في الكازينو، ومن يتبين انه يكذب يُحظّر عليه الدخول. هذا في المبدأ، أما اليوم فكلّ من يشاء يستطيع الدخول يقول احد العارفين، لا تدقيق ولا منع لأحد، الشرط الوحيد أن يكون فوق الواحدة والعشرين من عمره… وبعد، فليأت ويلعب وينشرح ويدخل المال الى خزينة الكازينو ومن بعدها الى خزينة الدولة… فكلها لعبة والكل “مبسوط”.
أرباح الكازينو باللبناني
يقول أحد العارفين أن كازينو لبنان استفاد من الأزمة المالية ومن أزمة كورونا معاً. فبعد كورونا لم يعد عليه تخصيص مبالغ للعشاء والمشروب والسيكار فانخفضت كلفة التشغيل فيما ازدادت أرباح الألعاب نتيجة ارتفاع المراهنات وارتفاع اسعار الفيش وفقدان رواتب الموظفين الكبار التي كانت ترهق الكازينو لقيمتها الفعلية نسبة الى الدولار. وبعد أن وصل الكازينو الى حافة الإفلاس نتيجة المصروف المرهق يعود اليوم ويستعيد مجده بعد ان زادت نسبة الأرباح ثلاث مرات عن قبل كما يؤكد احد المطلعين. لكنها أرباح بالليرة اللبنانية تبقى ركيكة وغير ثابتة إذا ما “قرّشت” بالدولار…