كتب أنطوان فرح في “الجمهورية”:
أثار كلام الرئيس السوري حول ودائع السوريين المحتجزة في لبنان حفيظة الكثيرين لجهة انّه كلام مُستفّز، يُحمّل لبنان مسؤولية الأزمة الاقتصادية في سوريا. ما حقيقة ملف الودائع السورية في لبنان؟ وهل صحيح انّ هؤلاء يمتلكون حوالى 40 أو 50% من مجموع الودائع في المصارف؟
كل ما دقّ الكوز بالجرّة، يطل الرئيس السوري بمقولة انّ الاقتصاد السوري كان سيكون بخير فيما لو لم يتمّ احتجاز اموال المستثمرين السوريين في المصارف اللبنانية، ويمنح لنفسه حق تقدير حجم هذه الاموال بما لا يقل عن 40 مليار دولار، وقد يصل الى 60 ملياراً وفق تقديراته، ولو على سبيل المثال.
الواقع، انّ هذا الكلام، وإن كان مفهوماً لجهة انّه العذر المُريح الذي يقدّمه الرئيس السوري لشعبه لتبرير الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة التي تمرّ فيها البلاد، والتي لا تقلّ ضراوة وصعوبة عن الأزمة في لبنان، إلّا أنّ ذلك لا يمنع وضع النقاط على الحروف، وتوضيح معطيات لا تُخفى على أحد، من أهمها:
اولاً- انّ حجم مجموع الودائع لغير المقيمين في المصارف اللبنانية قبل الأزمة لم يكن يتجاوز الـ28 مليار دولار، بينها قسم مهم لمودعين لبنانيين مغتربين، فضّلوا التسجيل في خانة غير المقيم.
ثانياً- ما تبقّى من هذه الودائع مقسوم بين المودعين الأجانب من كل الجنسيات، بما فيها الخليجية والعراقية، وهي جنسيات لديها نسبة لا يُستهان بها من مجموع ودائع غير المقيمين.
ثالثاً- انّ نوعية المودعين السوريين تنقسم الى مجموعة فئات. هناك المودعون المعارضون للنظام، وقد انسحبوا منذ سنوات طويلة من النظام المصرفي اللبناني، بعدما دخلت سوريا الى لبنان، ولم يعد هؤلاء يشعرون بالطمأنينة لوجود اموالهم هنا. وهناك فئة من السوريين المحسوبين على النظام، وهؤلاء توافدوا بكثرة الى النظام المصرفي اللبناني في خلال وجود سوريا في لبنان. لكن بعد اندلاع الحرب في الداخل السوري، وإقدام الولايات المتحدة الأميركية على وضع المصرف المركزي السوري على اللائحة السوداء، بالاضافة الى عدد من الشخصيات السورية المحسوبة على النظام، أقدم عدد كبير من هذه الفئة على سحب امواله من لبنان، بعدما بات يشعر بأنّ المصارف اللبنانية الملتزمة تطبيق القوانين الدولية، والقرارات الأميركية المتعلقة بالعقوبات، لم تعد الملاذ الآمن للاختباء من الرقابة الدولية. وهكذا خرج قسم كبير من هذه الاموال من لبنان. ولا شك في انّ المستثمرين السوريين الذين يملكون الاموال، وتحدث عنهم الاسد معتبراً انّهم قادرون على إنعاش الاقتصاد السوري، هم من الفئة غير المحسوبة على النظام، وفي الوقت نفسه غير معادية له، وهؤلاء لن يستثمروا في سوريا اليوم، بل انّ معظمهم بات يستثمر امواله في دول اخرى، مثل مصر وتركيا واسبانيا، كبديل من سوريا، بعدما عصفت الحرب بها ودمّرت مصانعها وقطاعاتها الانتاجية.
وعليه، يمكن التأكيد انّ اموال السوريين المتبقية في لبنان لا يمكن ان تكون قريبة من الرقم الذي اعطاه الاسد على سبيل المثال، وهي وفق التقديرات المنطقية قد لا تتجاوز الـ5 مليارات دولار، ويسري عليها ما يسري على ودائع اللبنانيين التي تبلغ حوالى 120 مليار دولار.
واذا كان المودعون الكبار سيتحملون لاحقاً خسائر كبيرة جراء الاقتطاعات التي قد تطال الودائع في اطار الحل الذي سيتمّ الاتفاق عليه مع صندوق النقد الدولي، من الطبيعي ان يتحمّل المودعون الاجانب، ومن ضمنهم السوريين الخسائر نفسها. وهي في كل الاحوال خسائر يعتبر البعض انّها أقل من اموال الفساد التي جناها بعض هؤلاء السوريين في خلال وجودهم في لبنان، وانخراطهم المفرط في سياسة الفساد وتقاسم المال الحرام مع بعض اللبنانيين.
وبالتالي، قد لا يكون من الظلم في مكان اقتطاع نسب من هذه الاموال في اطار الحل المالي في لبنان، وهذا الامر لا ينطبق على السوريين لوحدهم بل ينبغي ان يشمل المودعين اللبنانيين، حيث سيكون من المنصف توزيعهم على لائحتين: الاولى تضمّ المودعين الذين لا علاقة لهم بالقطاع العام، واموالهم بعرق الجبين، وهؤلاء ينبغي ان تعود حقوقهم كاملة. ولائحة تضمّ كل المكشوفين على القطاع العام، من المسؤول الكبير الى الموظف الصغير، وهؤلاء مطلوب منهم تبرير حيازتهم الاموال، وكل من يفشل في التبرير، من الإنصاف إخضاع وديعته الى اقتطاعات بنسب كبيرة جداً. هذا الاسلوب يُفترض ان يُتبّع في أي عملية هيركات متوقعة، وهو اسلوب ينطوي على أقل قدر ممكن من الظلم في مثل هذه الحالات الاستثنائية.