كتب علي شندب في “اللواء”:
أفضى إعتذار سعد الحريري، عن تشكيل الحكومة، الى تكريس الإستعصاء والإنسداد السياسي حاكماً للّحظة السياسية والزمنية التي لا إمكانية فيها للتكهن بحجم الإرتطام الكبير للبنان في سقوطه الدراماتيكي الحرّ.
إنه الإستعصاء الذي رسم زعيم حزب الله تضاريسه السياسية بإحترافية مركّزة تقود الى دفع المنظومة لتبنّي خطة نصرالله التي يكشف عن ألغاز شيفرتها ومندرجاتها تدريجياً، وذلك بدءاً من تجويف وتفخيخ المبادرة الفرنسية وتعديلها، ومن ثم برفضها المتمثل بإعلان نصرالله أن الحلّ يكون بحكومة تكنوسياسية، لا حكومة إختصاصية. وصولاً الى «بقّه البحصة» الحقيقية «تغيير النظام»، من خلال قوله أن «لبنان يعاني أزمة نظام، وأن أزمة الحكومة جزءاً من أزمة النظام».
وقد عزّز هذه الخطّة، إنجاد نصرالله لصديقه (غير المختلف أيديولوجياً مع إسرائيل) جبران باسيل. فالحزب تظاهر ببذل الجهود لتذليل عقبات التشكيل إعلامياً، لكنه بحسب الحريري لم يفعل شيئا عمليا. بل إنه أوعز لرئيس الجمهورية ميشال عون لإستكمال السير في إخراج الحريري وإقصائه عن معادلة الحكم والحكومة.
إنه الإقصاء، ذلك الذي إعتمده حزب الله مع الحريري. إنه الإقصاء المرتكز على «عبوة ناسفة» زرعها رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد قبل ثلاثة أيام من إعتذار الحريري وعشية زيارته الى القاهرة. أي أن توقيت العبوة كان إستراتيجياً بامتياز من وجهة نظر الحزب المتخصّص في زراعة العبوات. وعلى أثير إذاعة النور استرسل محمد رعد في عرض عبوته قائلاً: «إن الحريري لا يريد أن يشكل حكومة، ولا يريد أن يعتذر، ولم يعد هناك فرصة لتشكيل حكومة تنهض بالوضع الإقتصادي». وفي صلية إسنادية لنعي فرصة تشكيل الحكومة قال رعد «إن الحريري حاول أن يتعايش مع أكثرية مناهضة لمشروعة لكن غلبه أسياده فيما بعد». وإن عبارة «أسياده»، أي «أسياد الحريري العرب والأجانب» التي ختم بها رعد قنبلته، تشي بإستعادة الحزب للغة «التخوين والعمالة»، التي سبق واستعملها زمن المحكمة الدولية، ورشق بها كل خصومه زمن صعود 14 آذار.
بعد قنبلة رعد غير الصوتية، (التي لم ينجح المستشار الرئاسي الفرنسي باتريك دوريل خلال لقائه رعد في الضاحية الجنوبية تعديل مفاعيلها) لم يعد مهماً حصر تداعيات إقصاء الحريري، ولا متوقعاً سقف تحليق سعر الدولار مقابل إنخفاض قيمة الليرة.
فإعتذار الحريري كان ردة فعل، على قنبلة حزب الله الذي وللمفارقة تردّد أنّه تدخّل لمنع رئيس الجمهورية وآله من الإحتفال بانتصارهم على الحريري وكسره ومن خلفه رؤساء الحكومة السابقين، فضلاً عن دار الفتوى والمجلس الإسلامي الشرعي الأعلى الذين لم يعد أمامهم وفق المنتصرين عليهم، إلّا الخضوع والتسليم للفراغ ولو كان اسمه حكومة حسّان دياب، أو لمكلّف جديد بمواصفاته قد يفرض عليهم.
هذا هو المسار الإستراتيجي الذي رسمه حزب الله منذ لحظة وصول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد ساعات على إغتيال مرفأ بيروت. أول الغيث كان موافقة حزب الله بلسان محمد رعد على تسعين بالمئة من المبادرة الفرنسية في قصر الصنوبر. وعندما استفسر ماكرون رعد حزب الله، عن المقصود بالعشرة المتبقية فكان الجواب رفض إجراء إنتخابات نيابية مبكرة. وهو ما سلّم به ماكرون لحزب الله.
وبعدما تبيّن تطابق الرسم التشبيهي لحكومة المهمّة بمواصفاتها الماكرونية، مع السفير مصطفى أديب، ضرب حزب الله ضربته الثانية، مشترطاً لتسهيل ولادة الحكومة الحصول على وزارة المالية. ما دفع ماكرون لمهاتفة الحريري والمكلّف مصطفى أديب للموافقة، وهو ما أدّى عملياً الى تجويف المبادرة الفرنسية، والى ضرب مبدأ المداورة في توزيع الحقائب بين الطوائف والمذاهب، وهو المبدأ الذي منح رئيس الجمهورية وصهره جبران باسيل الحجج المتناسلة لتعطيل الحكومة.
لكن هل أن موقف حزب الله المستجيب أيضاً لنجدة حليفه جبران باسيل وحده من أقصى الحريري؟
أغلب الظن أنّ حزب الله استفاد أيضاً، من موقف البطريرك الماروني بشارة الراعي ليس لجهة دعوته لحياد لبنان، ولمؤتمر خاص برعاية الأمم المتحدة. إنما لذلك الموقف الذي عبّر فيه البطريرك الراعي عن ضيق صدره وتأففه من حال المراوحة في تشكيل الحكومة، وفشله وإخفاقه في تضييق فجوة الخلاف والإختلاف بين عون والحريري. فكانت عظته عشية قنبلة محمد رعد والتي قال فيها «فلا عبارة الإتفاق مع الرئيس المكلّف تعني تعطيل التشكيلات المقدمة، ولا التكليف يعني تكليفاً أبدياً»، بمثابة العبوة الثانية التي وقفت وراء إعتذار الحريري أيضاً.
عملياً، نجح حزب الله في مناوراته لإجهاض المبادرة الفرنسية. كما نجح في منع الحريري من تشكيل الحكومة، تاركاً أمر تعطيلها الدستوري لوكيله في قصر بعبدا ميشال عون. كما إن الحزب لم ولن يسمح بتشكيل حكومة ميشال عون كما سمّاها الحريري، الذي تعمّد في «مقابلة طق الحنك» التلفزيونية الإعتذارية، عدم الكلام عن قنبلة محمد رعد التفجيرية حفاظاً على مشاعره.
إذن، «نعم للتكليف ولا للتأليف»، المعادلة الواضحة التي إعتمدها حزب الله، والذي استطاع عبرها أن يستقطع نحو تسعة أشهر من عمر اللبنانيين على إيقاع مفاوضات فيينا النووية، حيث اللحظة السوبراستراتيجية المؤاتية كي تستثمر إيران فيها كل أوراق القوة التي استجمعتها بصبر إستراتيجي ومنذ زمن طويل، ومنها ورقة لبنان، الذي يعتبر أمر تشكيل حكومة فيه، تفصيلاً صغيراً أمام الملفّات الإيرانية الضاغطة في المنطقة من لبنان الى سدّ مأرب.
ولعلّ إقصاء حزب الله للحريري، يشكّل خطوة سياسية إستباقية لمواجهة ما يسشتعره حزب الله من حراك دبلوماسي عربي ودولي يرتدي لباس المساعدات الخاصة بدعم الجيش اللبناني، وتلك الإنسانية للشعب اللبناني المرتكزة على الترويكا الأميركية الفرنسية السعودية، والمعطوفة على الكلام النوعي والإسنادي لمصر التي ستعمل مع الدول العربية والأجنبية، على إعادة تقييم الموقف، ليُبنى على الشيء مقتضاه.
ولعلّ عبارة «يبنى على الشيء مقتضاه» التي تبادلها الحريري مع عون، تعبر عن دخول لبنان مرحلة الحسم. إنها المرحلة التي تتخلّلها توترات أمنية بوتائر مرتفعة نتيجة الإحتجاجات الشعبية على الغلاء وإرتفاع الأسعار وفقدان الوقود والكهرباء والدواء.
توترات برزت في منطقتين حسّاستين. الأولى، في محلة الناعمة حيث تقطع طريق بيروت الجنوب حيث يرافق إطاراتها المشتعلة ظهور مسلح وإطلاق رصاص، وهو ما سبق وحذر حسن نصرالله من تداعياتها الخطيرة في حال تكرارها. والثانية، في محلة جبل محسن بمدينة طرابلس، حيث عمد أهالي المحلة الى قطع الطريق احتجاجا على انقطاع الكهرباء وفقدان الوقود. ونجم عن ذلك وقوع احتكاكات مع الجيش اللبناني نجم عنها إصابة نحو 40 شخصاً بجروح، بينهم نحو 19 جنديا، جرح خمسة منهم نتيجة رميهم بقنبلة. وقد نجح الجيش في إعادة الهدوء الى جبل محسن بعد إعتماده الحل الذي سبق واعتمده في محلة باب التبانة دون وقوع إصابات، وهو الحل القائم على توفير مادة المازوت لمولّدات الكهرباء الخاصة من مخزونات إحتياطي الجيش.
إنّها التوترات التي تضع لبنان على صفيح ساخن، نتيجة تموضعه في قعر جهنم، مع العقوبات التي يهوّل بها الإتحاد الأوروبي على بعض المسؤولين اللبنانيين، ربطاً بالجهود الدبلوماسية العربية والأجنبية وآخرها مباحثات أمين عام الجامعة العربية مع أمين عام الأمم المتحدة، وبدء تحريك برنامج الغذاء العالمي وغيره من المؤسّسات الإنسانية باتجاه لبنان، فضلاً عن المؤتمر الذي ستنظمه فرنسا في 4 آب المقبل، تزامناً مع الذكرى السنوية لتفجير مرفأ بيروت، واستشراء الهشاشة في جمهورية الأشلاء اللبنانية.
كل هذه العناصر المتجمّعة في سماء لبنان، يعتقد حزب الله أنها ستمطره لهباً. ولهذا نفّذ حزب الله غارته الإستباقية سياسياً في إقصاء الحريري، ولا يستبعد أن ينفّذ ضربته الإستباقية عسكرياً، علّه يقطع الحبل قبل أن يصل الى رقبته.