كتب نبيل هيثم في “الجمهورية”:
قدّم «التيار الوطني الحر» نموذجاً فريداً في الأداء السياسي، لم يسبق أن اعتمده أيّ حزب سياسي لا في لبنان ولا في خارج لبنان.
أداءٌ صار «ماركة مسجّلة» للتيار، لا ينازعه فيه أحد. والشواهد لا تعدّ ولا تُحصى؛ خاصم الجميع من دون استثناء، اعتبر نفسه أنّه هو فقط عنوان الكفاءة والنّزاهة والإصلاح، وكلّ الآخرين مجبولون بالإرتكابات والفساد. وأخطاء فريقه من وزراء وغيرهم، مبرّرة «ما خلونا نشتغل». وأما أخطاء الآخرين أيّاً كان حجمها، فجرائم لا تُغتفَر.
فرأيه هو السّديد فقط، وكلّ الآراء الأخرى إمّا قاصرة، أو مشبوهة أو متآمرة، ومن يخالف رأيه فهو عدوّه، وحتى لو كان حليفه يصنّفه في جبهة الأعداء ويحرّك شارعه وماكينته الإعلاميّة ضدّه، ويهدّد بفرط التفاهم معه كما حصل في محطّات كثيرة مع «حزب الله».
تجربة القوى السياسيّة مع التيار، الذي صار يُسمّى اليوم «الفريق الرئاسي»، مريرة؛ فهو يريد أن يُعطَى فقط، والمُعطي هو الذي يتوجّب عليه أن يشكره لأنّه أخذ. وإنْ حصل وأعطى، يأخذ فوراً ما يعادله واكثر، وإن حصل وطلب أمراً ولم يُعطَ له، فليس أمامه سوى التعطيل – على ما حصل في التشكيلات القضائية وغيرها – و»مش مشكلة حتى ولو خربت الدنيا».
عندما يريد شيئاً تراه يتمسكن إلى آخر رمق، تخاله حمامة وحملاً وديعاً. ولنسترجع فقط كيف كان حاله أيّام الاستحقاق الرئاسي؛
أعلن التوأمة السياسية مع «حزب الله»، واستقوى بعضلات الحزب التي عطّلت الانتخابات الرئاسية سنتين ونصف.
كره نبيه بري لأنّه اكتشفه باكراً، وأدرك قبل غيره ما في خلفيّات الرئاسة البرتقاليّة. وحدّث ولا حرج عن وليد جنبلاط ومشاعره تجاه عون وباسيل.
كره سليمان فرنجيّة لأنّه تجرّأ على ترشيح نفسه أمام ميشال عون الذي كان وما يزال الرئيس الفعلي لـ«التيار الوطني الحر».
استمات في خطب ودّ سعد الحريري وسمير جعجع، والتفاهمات والمحاصصات المكتوبة وغير المكتوبة التي انتهى اليها معهما. ولكن في اللحظة التي يحصل فيها على مراده تصبح الحمامة صقراً، وتنبت للحمل الوديع أنياب ينهشّ فيها ذات اليمين وذات الشمال. وأوّل المنهوشين كانت «القوات اللبنانية» و»تيار المستقبل» فبلا جميلتهما!
وكلّ ذلك، لهدف وحيد يعرفه خصوم عون وباسيل، وما يماشونهم في هذه المرحلة، هو التربّع على عرش «الأمر لي». وثمة محاولة موصوفة جرت في انتخابات العام 2018 التي قام بها التيار بأوسع ترشيحات ضدّ الخصم والصديق، سعياً إلى تحقيق أكثرية الأمر والنهي في مجلس النواب وكذلك في الحكومة.
لم يحالفه الحظ بالظفر بالأكثرية الغالبة للجميع، بما اعتبره أقوى من كلّ الأكثريات؛ قلم رئيس الجمهوريّة وتوقيعه مراسيم تشكيل الحكومات. مدعّم بسلاح جديد عنوانه «المعايير وحقوق المسيحيين، التي هي اسم حركي لحقوق العونيّين». ولهذا القلم كان فعله مع تكليف سعد الحريري، وحمله على الإعتذار.
في زمن التكليف الحالي يتكرّر الأداء نفسه، قرأ الفريق الرئاسي من خلال رئيس تياره في مرحلة التكليف الحالية فرصة لتكليف شخصيّة سنيّة من النّوع الطيّع له ويماشيه في سياسته، ولا مشكلة إن كان هذا التكليف من طرف واحد، ولا يحظى المكلّف بالغطاء السنّي. وبدأت المنصّات بضخّ اسماء مرشحين، منهم من يشكّل استفزازاً للبيئة السنيّة السياسية والدينية، ومنهم من هو بوزن الريشة داخل هذه البيئة، ومنهم من يشكّل استفزازاً حتى لحلفائه.
منطق قوبل بالرفض حتى من أقرب حلفائه. لكنّه مضى في الترويج لخيارين، فيصل كرامي، بوصفه ابن بيت سياسي سنّي عريق، تاريخه مشهود له بوطنيّته، والسفير السابق نوّاف سلام، سياسي كخيار متقدّم على كرامي. ثمة من قرأ في ترجيح تبنّي التيار للسفير سلام، هو من جهة «زكزكة» إضافية لسعد الحريري، ومن جهة ثانية محاولة من التيار لتقديم اوراق اعتماد لأطراف خارجيّة معيّنة، بالنظر الى ما يمثل سلام من نقطة تقاطع اميركيّة- سعودية.
هذا الرفض، استفزّ هذا الفريق، خصوصاً وأنّه يقطع عليه فرصة إكمال ما يعتبره انتصاره على سعد الحريري، في وقت كانت الماكينات السياسية في المقابل تشدّ في اتجاه إحباط أي محاولة للاستثمار على ما يُسمّى «الإنتصار»، وردّت بتزكية اسم نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة، وكان ذلك بمثابة صدمة للفريق الذي يعتبر نفسه منتصراً بإزاحة الحريري، لا يستطيع ان يفعل شيئاً حيالها ولا أخذ استشارات التكليف إلى حيث يريد.
أن يشعر هذا الفريق بالاستفزاز فهو أمر طبيعي ومتوقّع، ذلك أنّ تكليف نجيب ميقاتي كأس أكثر مرارة من كأس تكليف الحريري. ونجيب ميقاتي أشد عليهم وأصعب من سعد الحريري، وخصوصاً في مسألة الصلاحيات والتزام النصّ الدستوري في كيفية تشكيل الحكومات. الى جانب الحقائب والثقة بالحكومة وكل ما يتصل بالأصول والمعايير التي خُلقت امام الحريري. فلا تمشي مع ميقاتي أن يقول التيار انّه لا يريد أن يشارك في الحكومة، ثم يتولى هو المفاوضات حول الوزراء، ويشارك عبر وزراء رئيس الجمهورية ولا يمنح الحكومة الثقة. فهذه مزحة ثقيلة تنطوي على كثير من الخفة السياسية. يضاف إلى ذلك، أنّ ميقاتي عضو في نادي رؤساء الحكومات، الذي شكّل الحصن الخلفي للرئيس الحريري والداعم له في معركته ضدّ معايير عون وباسيل ومحاولة تجاوز موقع رئيس الحكومة.
ومن هنا بدأ الفريق المستفزّ، الحملة الإعتراضية على ميقاتي وتصنيفه كمرشّح للمنظومة الفاسدة وإطلاق ما يشبه التوعّد المسبق، عبر القول بأنّ ما لم يُعطَ لسعد الحريري لن يُعطى لنجيب ميقاتي، والتأكيد على أنّ الموقف الرئاسي ثابت، فهناك اصول ومعايير وتوازنات يجب أن تُراعى.
ولكن ثمة ما يشبه الإزدواجية في الموقف البرتقالي، فهل هي جدّية ام تعبير عن توزيع أدوار. فالتيار يقول إنّ ميقاتي مرشح اميركا والمنظومة الفاسدة، ويلوم «حزب الله» كيف يقبل به، مع أنّ الحزب لم يحدّد موقفاً حيال ترشيح ميقاتي بعد، وليس خافياً انّ العلاقة بينهما ليست على ما يرام. ويلوّح في الوقت نفسه بـ»انّنا سنمنح التأليف فرصة قصيرة قبل ان نستقيل من المجلس النيابي».
وفي المقابل، يقول الرئيس عون إنّه «جاهز للتعاون مع ميقاتي.. فهو يجيد تدوير الزوايا، وهو من النوع اللي بياخذ وبيعطي، وبالحوار الصادق نستطيع ان نعالج اكبر مشكلة. هو يقترب قليلاً وانا اقترب قليلاً، يمكننا عندها ان نلتقي في المنطقة الوسطى».
امام هذه الإزدواجية، لا يمكن افتراض انّ التأليف سيتمّ بطريقة سلسة، فالرئيس ميقاتي مستعجل على التأليف، ولكن كيف سيعبر حقل المعايير الرئاسية؟ فهذا في علم الغيب.
في تشرين الأول من العام الماضي خسر الفريق الرئاسي الاستشارات السابقة وسُمّي سعد الحريري رئيساً مكلّفاً، فواجهته المعايير لتسعة أشهر، فاعتذر. واليوم تتكرّر الحالة نفسها مع استشارات اليوم، بحيث سيُسمّى نجيب ميقاتي رئيساً مكلّفاً، وعلى ما بات مؤكّداً، فإنّ هذه المعايير ما زالت ماثلة في الطريق.. ومعنى ذلك أنّ حبل التأليف.. معقّد وطويل!